«مفهوم المحبة صار بالنسبة لي المنظار الذي عبره أشاهد الدنيا، بل الوجود بأكمله المادي والمعنوي، ولم أبلغ هذه المحبة إلاّ بعد أن اقتنعت بأن سر عذاباتي كلها، وعذابات البشر، هو (الحقد) ضد الذات والناس والحياة» (س/مطر)


الاعترافات التي دونها الكاتب (سليم مطر) بطريقة ربما تكون فريدة في أسلوب سردها، حيث تطوح بقارئها إلى الجهات الأربع الأصلية وربما سحبته إلى الجهات الفرعية كذلك، فهو يتحدث عن (الحانوت) وعذاباته مع أبيه (مطر) ثم تدرك مباشرة إمساكه بتحديد شخصية الطفل المسيحي الذي حنّ عليه أبوسليم عندما وجد هذا الصغير يتسكع حول الحانوت، ويمسح سيارات بعض العاملين بدائرة الأمن المتاخم لحانوتهم العظيم الذي لا يتركه الكاتب دون أن يفند لك بالتفصيل المادة التي يتكون منها الحانوت وكيفية تصميمه كما يصف الخارطة التي تدل على موقع وتضاريس المكان الذي أقيم فيه الحانوت، هو يدور ولكن بشكل حلزوني مقلوب إذ بدأ بحديث شامل عن العائلة، ثم صار الحانوت هو وأبوه مدار الحديث، لتجيء التشعبات التي تتقاطر ببطء على بعضها عما سيحدث وما هو حادث وما قد حدث، والمتلقي لا يحس بضيق؛ لكون هذا التراوح بين البيْنات التي كانت وستكون وكائنة، يقوم على دوران الذات حول نفسها وما حدث لها. في معظم الكتاب أو أكبر نسبة عنه هو وعن أبيه مما يوحي بأن السرد الذاهب والمواجه والمستشرف يترابط ببعضه لأنه عن رجل لا يستحي أن يقول كل شيء، ولكن على جرعات مختلفة فيها الحلو ولا ينقصها المر، فهي وصف معاناة طفل تعلق به أبوه، وعلّقه بالعمل معه من صغره، مما غيب أفراد الأسرة عن حديثه إلا فيما ندر؛ لأنه كان في كنف أبيه ينمو في رعايته التي وصفها بـ»أبي تزوج في الثلاثينيات وهو شاب من -جريَّة- وهي آخر زوجات أخيه الأكبر المتوفى وتزوجها وكعادة أهل الريف في العراق لكي يحافظ عليها وعلى أبناء أخيه ويبقيهم ضمن العشيرة، مرضت جريّة بعد أعوام ولم تعد قادرة على إنجاب الأطفال فقررت أن تهب زوجها (مطر) ابنة أخيها (وبريّة) فتاة صغيرة تشبه الدمية الروسية، لتكون له زوجة ثانية وأنجبتنا نحن».

ما أن يصف سبب زواج أبيه بأمه حتى يعود إلى تأطير الحاضر عبر الحديث الوصفي الصادق والساخر بمرارة بسبب ما يختزنه ذهنه من معاناة لما يمثله واقعه كعمود له فعله في كيان الحانوت الذي صار بديلاً له عن البيت الذي لم يذق به لذة الراحة بين أفراد الأسرة -كما أسلف أن ذكر- وهذا الحانوت في الواقع الذي يحس به ويعاني منه كاتب الاعترافات «أما حانوت أبي فله حكاية أخرى، بالحقيقة أن تسمية (حانوت) من اختياري أنا، لعلها الأقرب، رغم أنها تبدو لي أنيقة وراقية جداً مقارنة بوضعيته في الواقع، أما تسمية (قهوة) التي كانت شائعة عنه، فتبدو غير واقعية أيضاً، لأن القهوة تبيع المشروبات فقط من دون طعام، لهذا اخترت اسم (حانوت) لأنها الوسط بين مطعم ومقهى» لم تخفف المدرسة الابتدائية التي كان عديم المواظبة على الحضور فيها من شغل الحانوت حيث يذهب فور عودته لممارسة عمله مع والده فإذا أحضر المواد والمؤنة التي يحتاجها الحانوت من السوق سرعان ما يباشر عمله الذي أوكل إليه «كنت أوقد نيران الوجاق وأعمل الشاي وأسلق البيض والخضروات، وبعد العصر آخذ علاقتي المليئة بالمشروبات البيبسي والكولا والسبرايت.. والخبز والبيض المسلوق أدخل زنازين المعتقلين -عهد عبدالكريم قاسم- وما زالت حتى الآن تعلق في أنفي رائحة المكان المعتمة المخنوقة العطنة وأبدأ منادياً على بضاعتي.. بعضهم يسرقني وبعضهم يمنحني بخشيشاً، وقد رأيت كثيراً من الشخصيات السياسية والعسكرية، وكان من الطبيعي أن أمرق إلى مكان المسؤولين في المركز، وأذكر منهم الشرطي السمين الذي قيد والدي اسمه في دفتر المديونين باسم (عادل ط ..) وعكسه عادل النحيف باسم (عادل مفعوص)، وكان عادل السمين ما أن يراني ببضاعتي حتى يترك ضحيته المعتقل طريحاً ويسحب علاَّقتي ويتناول مشروبه المفضل وبنفس واحد يشرب قنية ثم ثانية ثم ثالثة، وهو يشهق ويزفر مثل ثور هائج ثم ينقض على المأكولات يلتهمها بسرعة وشراهة، وبعده يرجع إلي الكيس (علاقتي) قائلاً: خل أبوك يسجل الحساب بدفتره».

كان أبوه بحكم معرفته بالعاملين في دائرة الأمن قبل تقاعده تربطه صداقة بهم، فيخصونه ببعض كراتين الكتب والمجلات الممنوعة والتي جردت من المعتقلين، وخاصة في الشتاء من كتب ماركس وجماعته «لكي نحرقها ونتدفأ عليها، لا أدري إن كان لنيران الشيوعية هذه التأثير الروحي الخفي في تحولي فيما بعد إلى الشيوعية؟» فعلاً انضم إلى الحزب بعد سنوات حينما بلغ الثامنة عشرة من عمره وهرب مع رفاق إلى خارج العراق خوفاً من البعثيين، وصل روما وهو ينوي أن يصل إلى سويسرا ولكن حقيبته اختفت وليس معه أي ورقة نقدية، فعمل رسام بورتريت، وكاريكاتير على الرصيف، وعندما تمكن من الوصول إلى سويسرا تعرف على فتاة من هناك تهتم بالتراث الشعبي العالمي، تزوجها وأنجبت له ولدا سماه (باسم) وحصل على الجنسية السويسرية، أصيب بمرض السرطان مما اضطره لعلاجه وقد عانى منه الكثير من الآلام الجسدية والنفسية، لم يكن خائفاً على نفسه بقدر ما هو في تفكير ماذا سيحدث لابنه وزوجته..، شفي وكان لشفائه نقلة مهمة في حياته تجاه الحياة والناس»في سويرا المادية العلمية، بدأت اكتشف الروحانية، حتى أني في الأعوام الأخيرة تخليت تماماً عن قناعاتي المادية، ودخلت في عالم الروحانيات من دون اعتناق مذهب معين، بل بصورة إنسانية كونية ومنفتحة على جميع المذاهب والأديان، وجوهر روحانيتي هي (المحبة) محبة الذات والإنسان وعموم الحياة».

زار العراق بعد أكثر من خمس وعشرين سنة، وكم كانت خيبة أمله؛ حيث لم يجد من الأصدقاء والمعارف إلا النادر المكتئب والأكثر قد غادر الحياة أو غادر الوطن مهاجراً، عاد إلى سويسرا وهو يردد في أعماقه «إني سويسري في العراق، قدر ما أنا عراقي في سويسرا!!»