«استشعرت في جيبها الهدية الناعمة التي ستعطيها لسارة فيما بعد، كانت قد وجدتها في درج من أدراج المكتب وهي تفرغه، عرفت أنها تخص سارة وأن الواجب يملي عليها تعيدها إليها رغم أنها تعرف بأن من شأن ذلك أن يحمل مشاعر مختلطة بين الفرح والحزن».
( ف - هنري)
تولت (إميليا) أمر المكتبة بعد وفاة أبيها يحيط بها الحزن الذي خيّم على مشاعرها ولكنها تحاول أن تعمل بما تعهدت به لأبيها بأن المكتبة لن تغلق وستظل كما هي، وأن تجعل منها منتدى يكون ملتقى للكتاب والقارئين لأن بقاء المكتبة وإضافة ما يشد المهتمين بالشأن الثقافي كتاباً وقراءً، وأن تحوي ما يشبه المعرض الفني حيث يعرض الفنانون لوحاتهم، وأن يجد الزوار بغيتهم من التسلية والمعرفة في آن.
فطاولات الزهر والكتب والمجلات والجلسات التي يلتقى فيها المهتمون بالكتب بعضهم ببعض «بجانب الجسر الحجري.. تقع (مكتبة بايتنغيل) بطوابقها الثلاثة وواجهتها المشكلة من قسمين، وفيها نافذتان مصنوعتان من خشب الغار وباب أزرق غامق، وقفت إميليا في الخارج حيث نسيم طلائع الصبح.. نظرت إلى المبنى الذي كان البيت الذي لم تعرف سواه.. كانت حجرتها الواقعة فوق المكتبة لاتزال وفيها معظم أغراضها، رصيد اثنين وثلاثين عاماً من الأغراض المكومة والمقتنيات الشخصية» دخلت البيت لتشاهد ماضيها الذي لازال حاضراً في مقتنياتها الشخصية وما كان قد أضفاه عليها إبان حياته سواء قبل اغترابها وبعده ولكن لا تغيير كثير يذكر. لقد كان هم الوالد العناية بالمكتبة وخاصة الكتب من الجديد والقديم وما هو خاص بالعرض من النوادر الثمينة من كتب ولوحات وما كان يحرص عليه أن تكون شبه ناد لمحبي الثقافة يفيد ويستفيد منهم، فمهما ارتفع رصيد المكتبة من الرواد على كافة المستويات وخاصة المثقفين والفنانين الذي أصابوا شهرة في البلاد وخارجها، إذ كان حريصاً على أن يوفر الجو الثقافي الملائم للأمزجة المختلفة.
تجولت في أنحاء النزل وهي تسترجع الماضي الذي يصافح عينها ويحاور مشاعرها فتكون في شبه حالة انعدام توازن بين الواقع الخيال تظللها أجنحة الحاضر تسللت «وقفت في المكتبة شعرت رويداً رويداً بإحساس من الراحة يستولي عليها سكينة أراحت روحها، فأبوها لايزال هنا، وسط أغلفة الكتب وكعوبها المنتصبة، رغم أنه كان يعرف كل كتاب في مكتبته، ربما لم يقرأ كل كتاب منها من ألفه إلى يائه، ولكنه فهم سبب وجود كل كتاب هنا، وما غرض المؤلف من كتابه، ومن هم بناء على ذلك القراء الذين سيقرؤون هذا الكتاب أو ذاك، من أبسط كتب الأطفال المصورة من الكرتون السميك حتى أثقل المجلدات وأكثرها امتلاء بالطلاسم، تتجول وتقلب وتتناولها شتى الأفكار، هناك إصرار على أن تبقى المكتبة فأبوها تراه في كل زاوية وركن من أركان هذا العمل العظيم في نظرها، فهو يحب المكتبة والكتب ويرى نفسه في مكتبته، هي من الأسرة التي تناقصت أطرافها ولكن المكتبة هي الأسرة بكاملها الآن بعد أن بقي وحده فيها طوال يومه إلا ساعات نومه التي أخذت تقل وقتاً عن وقت، فما أن يشرق الصباح حتى تكون أبوابها مفتوحة تستقبل نسمات الصباح وأول زائر أو زبون، هذه المشاعر استولت عليها وهي مصرة على أن تظل للمكتبة مكانتها عندها وعند غيرها من المتعاملين مع أبيها وأن تضيف ما تستطيع، الكتب والكلمات التي تحتوي عليها الكتب، فأبوها هو من أوجدها وعمل كل الطرق التي توصله للكتب لكي يوصلها إلى مكتبته التي وصلت شهرتها مناطق مختلفة من البلاد مما عمم سمعتها الطيبة حيث يتناقل المهتمون اسمها بين بعضهم مما جعل منهم من يرتب يوماً في الأسبوع أو في الشهر؛ لكي يأتي إليها زائراً يبحث عن صيد ثمين كما يعتبره لكي يزيد ثراءه المعرفي مستعيناً بصاحب المكتبة في استشارته وما يوصي به من كتب.
فتحت المكتبة أبوابها تعديل وترتيب في الديكور بمساعدة صديقتها/ صديقته، وصارت البنت خليفة والدها في منصة القيادة، وعملت على ما عزمت عليه أن تبقى المكتبة، حاول جارهم في الشارع صاحب تجارة ومكتبه التجاري تضخم ويحتاج إلى توسع في الأرض لكي يضيفها إلى أملاكه، يعمل المستحيل لكي يشترى المكان الذي تشغله المكتبة بالمواجهة والخداع، ويستعين بمن يرى أنهم يمكن أن يقنعوا أميليا ببيع المكتبة بأي مبلغ تريد، ولكن كل محاولاته تبوء بالفشل ويرتد عليه بعض من اعتمد عليهم ويكون في صف صاحبة المكتبة التي استعانت بمن يساندها في العمل، وتعاونت مع فرقة موسيقية كعازفة وأُقنعت بأنها بارعة في العزف وأن مستواها يتساوى مع الكبار، ولكن مكانة المكتبة لم تتزعزع من تفكيرها بل ازدادت أهمية، جال في خاطرها أن أباها لايزال هنا، جاثماً في آلاف الصفحات، وملايين الكلمات فلا بد أن في المكتبة ملايين وملايين من الكلمات، بكل تلك الكلمات، والبهجة التي أدخلتها على قلوب الناس على مر السنين..
غيَّر أبوها عقول هؤلاء القوم، غير حياتهم، يرجع القرار لها لمتابعة مسيرة أبيها حتى تستمر ذكراه حية، أقسمت على ذلك بينها وبين نفسها (ستخلد ذكرى يوليوس نايتنغيل إلى الأبد) هذا هو قرارها الذي صممت عليه طوال الوقت حتى بعد أن تزوجت وسلّمت صديقة والدها التي اعترفت لها بصداقتها وتجربة الحب معه، بعد أن وجدت مظروفاً في مخلفات والدها في مكتبه باسم (سارة) التي صارت صديقة لها، «وجدت شيئاً في درج المكتب وأنا متأكدة أنه يخصك، وأعرف بأن أبي يريدني أعطيه لك» وعندما فتحت سارة المظروف كان وشاحاً وقالت «أشعر وكأنه سيدخل علّى الحجرة في أي لحظة ويقول لي: إنه اختار هذا لي هذا الوشاح؛ بسبب لون عيني»، لتؤكد أميليا: كان أبي أبرع شخص في انتقاء الهدايا، كان يريدني أبي أن أفعل ذلك. أحسست بذلك ففعلت.
التعليقات