«عندما كتبت سيرتي الذاتية المطولة في السبعينات، كنت مقتنعا أن ما رويته عن رحلتي الشعرية كان نهاية الكلام، وأنني عصرت نفسي عن آخرها، وفتحت كل صناديقي، ولم يبق في حوزتي ورقة واحدة.. ولكن بعد ربع قرن أدركت أن الشاعر لا يمكن أن يقفل صنبور الماء بشكل اعتباطي ويمنع مياه الذاكرة من التدفق» (نزار قباني)
الشاعر في البداية، والقاص في الوسط والروائي والسيروي الآن (أمير تاج السر) لم يتخل عن فنون الكتابة التي تلت الشعر وَمدد ساحته لتشمل الموافق والمطابق للمزاج في أي وقت، فيقدم للمتلقي بين وقت وآخر نوعا من تشكيلة معارفه بقالب مناسب، سواء في رواية أو قصة أو مقالة أو مذكرات، وأي شكل من الكتابة يرى إلى أنه يمكنه بواسطتها التوصيل والتواصل مع المتلقي، فقد زود المكتبة العربية بكتب منها - صائد اليرقات - 366 - أيبولا - العطر الفرنسي - رعشات الجنوب، وغيرها، فاحتل بذلك مكانة مرموقة لدى القارئين والمهتمين بالشأن الثقافي خاصة المندرج تحت مظلة خانة الإبداع، لأنه يرى في مرآة ذاته العاكسة بالحدس مدى التأثير الذي تحدثه عطاءاته الكتابية في المجال الذي يتوجه بها إليه، ولكون الكاتب قد طور موهبته بتجربته التي لازمته منذ البداية حتى الآن، برعايته لها تثقيفا بالمواصلة في التحصيل والعطاء، ومن ثم شرع في التنويع فهو في كتابه ( ذاكرة الحكائين) إذ يوحي لك بالعنوان أنه سيتكلم في مجمل الكتاب عن الحكائين حيث سيختار منهم نماذج ويقدم بعض قصصهم وحكاياتهم، ولكن الواقع الذي ساد على الكتاب لا يتطابق مع ذلك تماما، إذ لم يتناول سيرتهم إلا في أول الكتاب إذ اختار نموذجا مختلفا عن الحكائين المعروفين عند العامة والخاصة ممن يمتازون بسرد الحكايات والقصص الشعبي إذ ذكر أن حكاءه» (شوقي بدري) يعتبر شيخا لكتّاب الحكاية البسيطة، وأقرب للحكي الشفاهي في السودان، رجل يقيم منذ سنوات طويلة جدا في بلاد الغرب، وتحديدا في السويد لكن ذهنه ما يزال (أمدرمانياً) خالصاً، أيْ مرتبطا بمدينة أم درمان التي ربما تغيرت معالمها الآن «ولتبرير سبب التغيير الذي حصل للمدينة يذهب أمير إلى أنه «في ذلك الذهن (شوقي) تسكن الشوارع والأزقة القديمة والحارات بغبارها وتوابلها وعطور شاغليها، يسكن الناس بجميع أعراقهم وقبائلهم.. وأيضا الحوادث التي قد تقع والتي لن تقع في مجتمع متماسك بدرجة غريبة.. فشوقي بدري يمسك بيدك ويقودك إلى بيت في حارة ضيقة من حارات (أبو روف) أو (ود نوباوي) أو (عبدالله خليل) لتأكل طبقا من طبيخ شعبي لعله العصيدة أو الكسرة بالباميا).. المهم أنه في كتابه - حكايات أمدرمانية - لا يحكي من فراغ « بعد هذه الفقرة المضغوطة والتي أخشى أنني بتصرفي بشكل بسيط في محاولة أن المها باختصار لأصل إلى أن عبدالأمير يشير إلى أن كتابه السيري (قلم زينب) استهله بتقديم: إلى شوقي بدري من حكاياته تستلهم الحكايات، مع لفت نظر إلى أنه عرف حكائين كثر من نتاجهم استلهم منهم عددا من تلك الحكايات التي كانت خامات تحتاج إلى تطوير.
إن من أراد أن يكتب عن الحكائين سرت إليه عدوى الحكي، ففي الموضوع الذي كان يمثل مقدمة اتكأ فيه على سرد ما يشبه الحكاية عن حياة شوقي، فسرد قصصا أشبه بالحكي بأسلوب تهكمي ممن يدعون المعرفة وهي منهم براء، فقد قرأ في الإنترنت نقدا لرواية مترجمة لها قيمتها الأدبية بشهادات مثقفين لهم مكانتهم في الساحة الثقافية العالمية يقول فيه الناقد: رواية سخيفة سطحية ذات لغة ركيكة وبلا هدف ولا تستحق الوقت الذي أضعته فيها ثم يضيف»؛ ولأن القارئ لم يذكر أي شيء يدل على قراءته للرواية «لم يستشهد أو يسجل فقرة تدل على قراءته للرواية وما هي السلبيات التي استخلصها ليحكم بما ذهب إليه، وأخذ تتبع ما يكتبه في الموقع الذي يكتب فيه، وما كتبه عن كتب أخرى غير تلك الرواية «فعثرت على نفس التعليق الذي ذكرته أو معدلا قليلا إلى الأسوأ موضوعا يتكرر على معظم الكتب التي ذكر أنه قرأها وقيّمها بعدم استحقاقها لأي شيء، وعثرت على عدة أصدقاء يؤيدون كلامه، وأيضا بلا إشارة إلى أنهم قرؤوا تلك النصوص، أو لم يقرؤوها، ولم يكن ذلك القارئ وحده في التجني على الكتب بلا هدف واضح ولكن عثرت على كثيرين ينتهجون نفس النهج» وبهذا النموذج من القارئين والمتجنين على الأدب والآداب يّذهب الكاتب بأن كثرة هؤلاء مع كثرة الادعاءات المماثلة ومن يروّجون لها ما هي إلا عوامل تكرس» المزيد من التدني في الوعي المعرفي وتشريد الناس من القراءة الصحيحة بهذه «القراءة المغشوشة».
ذاكرة الحكائين ليس حكايات (وسواليف) بل كتابا حفل بالمواضيع الثقافية المهمة التي سطرها قلم واع للحياة بمعناها المتطور المستنير الدافع إلى التزود المعرفي، والتعامل البشري فيما يفيد وينفع في المجالات الحياتية العامة والخاصة بالتركيز على الحراك الثقافي عالميا وإقليميا في شمولية تعني أن المعرفة / الثقافة هي الحياة وحبها الذي يشمل كل ما هو مفيد ونافع للبشرية، ومن عناوين الكتاب يتضح ما ذهبت إليه من قيمة يستحقها الكتاب (من تحديات الكتابة - رأي المؤمن وأمنه - الناشر والوكيل في الوطن العربي - القراءة طقوس - بعيدا عن اللغة المحكية - إيحاء الأمكنة - الأدب الممنوع - الإبداع والثرثرة - أن تستمر كاتبا - تشابه البيئات - أسئلة الكتابة) وغير هذه من العناوين، في الكتاب ما يؤكد أن الكتّاب الأطباء وأمير تاج السر منهم لم تدركهم حرفة الكتابة إلاّ لكونهم يتألمون للإنسان، ويفرحون إذا ما عملوا لإسعاده بما تعلموا وخبروا من علوم الطب جسديا ونفسيا؛ إذ نجد ذلك ينطبق عليهم من القدم مثل تشيخوف، وسمومرست موم، ويوسف إدريس، وهيفا بيطار، وإبراهيم الخضير، ومنذر قباني، وكثير غيرهم.
التعليقات