إن تجريم مسِّ الرموز لم يكن لدينا -نحن المسلمين- أثرًا من آثار ضغوط المشهد الحضاري المعاصر؛ إنه موجود في أساس ديننا، وهو دعوة انطلقت منذ فجر تاريخ الإسلام حين قال الله تعالى: (ولا تسبُّوا الذين يدعون من دون الله فيسبُّوا الله عدوًا بغير علم)، فهنا ينهى القرآن الكريم نهيًا صريحًا جازمًا عن سب آلهة الآخرين التي يعبدونها من دون الله، لأنها ستؤدي إلى سب رب العالمين..

في حضارات الأمم وشعوبها رموز إنسانية ترى فيها تلك الأمم والشعوب بُعْدَها الديني أو الثقافي أو الحضاري أو كلَّ ذلك، كما ترى في تلك الرموز سبب وحدتها واجتماع كلمتها وتقدمها وازدهارها، وأن التفريط فيها يؤدي إلى هَزِّ كيانها الداخلي، وربما انفراط وحدتها الوطنية والسياسية. ولذلك فهذه الأمم والشعوب تحامي عن هذه الرموز غاية المحاماة، من منطلق روحي يتصل بالدين والثقافة، ومن منطلق مصلحي يتصل بالكيان والوجود.

ومن حق كلِّ أمة وشعب أن يفاخر برموزه ويظهرهم في مظاهر الإجلال والاحترام، وهو بذلك يُحقِّق الاعتبار الذاتي الذي يجعله محترمًا ومقدَّراً على الخريطة الجغرافية والتاريخية.

ويأتي في طليعة هؤلاء الرموز الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، ثم ما شاء الله من رجال ونساء لاعتبار ديني أو ثقافي أو سياسي. هنا ونحن في حضارتنا المعاصرة، وقد تعلقت الأمم بعضها ببعض، ووجد بينهم من الوشائج والصلات والمصالح، بل والمصير المشترك في قضايا متنوعة كالمناخ والطاقة وغيرهما، ما أدى -أيضًا- إلى إنشاء منظمات وهيئات ومجالس لتحقيق التقارب بين هذه الأمم والشعوب، ولرسم السياسات المشتركة بينها بما يحقق مصالحها، وبما يسهم في تقدم الإنسانية وتجنيبها المخاطر التي قد تهدِّد وجودها؛ هنا وفي هذا المشهد الحضاري الذي لم يسبق له في التاريخ وجود "على الأقل في التاريخ المكتوب المسطور" جدير بهذه الشعوب في إطار منظماتها الدولية أن تُجرِّم مسَّ هذه الرموز الدينية والتاريخية، وكما لا يسمح لدولة عضو في المنظمة الأممية الاعتداء على حدود دولة أخرى فلا يحق لها -أيضًا- أن تعتدي على رمز ديني أو تاريخي لهذه الدولة العضو.

لكن لماذا ندعوا نحن -خاصة- في المملكة عبر مندوبيها في منظمة الأمم المتحدة وكذلك كل عقلاء العالم إلى تجريم مسِّ الرموز الدينية والتاريخية؟

أولاً: لأن من مقتضيات إنشاء هذه المنظمات الدولية بكافة تفريعاتها ولجانها تأسيس الاحترام المتبادل بين أعضائها، بما يشيع ثقافة السِّلم، ويشجع على التعاون المشترك، وينشر مناخ الانسجام والتفاهم. ولا شك أن مسَّ هذه الرموز يؤدي إلى النقيض من ذلك وينشر الكراهية ويؤجج الصراع.

ثانيًا: كما أن ذلك -أعني مسَّ الرموز- ليس من حرية التعبير بحال، وهو مثل ما إذا رأيت جارك وقد خرج في الشارع فتبدأ في سبِّ أبيه وجدِّه، فهل ذلك من حرية التعبير؟!

ثالثًا: ثم إن حرية التعبير ستبقى من القضايا الفكرية الشائكة التي لن تستطيع الإنسانية الوصول إلى تحديد دقيق لها، لأنها تستند -في الأساس- إلى الإرث الديني والثقافي لكل حضارة، ولذلك فتفاهم الإنسانية حول ما يحقق مصالحهم، وفي طليعة ذلك الأمن والسِّلم أولى بكثير من الانشغال بقضايا شائكة تؤثر على تفاهمهم وتعاونهم.

رابعًا: ومن الأسباب المهمة لإقرار تجريم مسِّ الرموز الدينية والتاريخية، أن ذلك القانون في حال إقراره سيكون من أهم العوامل لمحاربة التطرف والإرهاب، فما زال الإرهابيون يستغلون هذه النقطة حين تتعرض صورة رمز للتشويه منطلقًا لأعمالهم الإرهابية.

وإن كان من ختام لهذا المقال فإن تجريم مسِّ الرموز لم يكن لدينا -نحن المسلمين- أثرًا من آثار ضغوط المشهد الحضاري المعاصر؛ إنه موجود في أساس ديننا، وهو دعوة انطلقت منذ فجر تاريخ الإسلام حين قال الله تعالى: (ولا تسبُّوا الذين يدعون من دون الله فيسبُّوا الله عدوًا بغير علم)، فهنا ينهى القرآن الكريم نهيًا صريحًا جازمًا عن سب آلهة الآخرين التي يعبدونها من دون الله، لأنها ستؤدي إلى سب رب العالمين. وهكذا المشهد الحالي لو أخذت كل أمة تسب رموز أمة أخرى، لأدى ذلك إلى الاقتتال اللفظي الذي قد يؤدي إلى الاقتتال الفعلي.

لقد آن لعقلاء العالم أن يتحدوا في هذه الدعوة فإنها دعوة ضرورة لا ترف، وهي دعوة تحقق مزيدًا من الاحترام المتبادل بين الشعوب والأمم، وهي -كذلك- دعوة يفرح بها العقلاء الذين يريدون الخير والسلام للبشرية، وفي الوقت نفسه يكرهها ولن يؤيدها المتطرِّفون الذين يريدون تأجيج الصراع في أنحاء المعمورة.