يحفل تراثنا العربي بالكثير من المصنفات والكتب التي تسرد وقائع وقصصاً لضروب من الذكاء والفطنة على مر الحقب والعصور.. وقد تحرّت العرب الدقة حتى عند الحديث عن أذكيائها، فقالت: «إن أشهر دهاة العرب أربعة: معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص وزياد ابن أبيه والمغيرة بن شعبة.

يروي الأصمعي عن معاوية أنه قال: «أنا للأناة، وعمرو للبديهة، وزياد للكبار والصغار، والمغيرة للأمر العظيم».. أما الذكاء فكان المثل يضرب بإياس بن معاوية، حتى قيل: «أذكى من إياس وأحلم من الأحنف وأسخى من حاتم وأشجع من عمرو».

وفي ذلك قال أبو تمام، وهو يمتدح المعتصم:

إقدام عمرو في سماحة حاتم

في حلم أحنف في ذكاء إياس

فأراد بعض الحاضرين أن يوقعوه، فقالوا: «لقد شبهت أمير المؤمنين بصعاليك العرب»، فقال أبو تمام:

لا تنكروا ضربي له من دونه

مثلاً شروداً في الندى والباس

فالله قد ضرب الأقل لنوره

مثلاً من المشكاة والنبراس

أضغاث أحلام

ومن طُرف الأذكياء أن شاعراً كتب إلى أمير المدينة رقعة استجداء، جاء فيها:

رأيت في النوم أني مالك فرساً

ولي وصيف وفي كفي دنانير

فقال قوم لهم علم ومعرفة

رأيت خيراً وللأحلام تفسير

اقصص منامك في دار الأمير

تجد تحقيق ذاك وللفأل التباشير

ولما قرأها الخليفة كتب في ظهر الرسالة: «أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين».

ذكاء علي

تزوجت امرأة، وبعد ستة أشهر ولدت طفلاً - والمعروف أن المرأة غالباً ما تلد بعد التاسع أو السابع - فظن الناس أنها حملت قبل زواجها.. فأخذوها إلى الخليفة ليعاقبها، وكان الخليفة حينئذ عثمان بن عفان، فلما ذهبوا إليه وجدوا علياً عنده، فقال لهم: ليس لكم أن تعاقبوها لهذا السبب.. فتعجبوا وسألوه: وكيف ذلك؟ فقال لهم: لقد قال تعالى: «وحمله وفصاله ثلاثون شهرًا»، أي أن الحمل وفترة الرضاعة ثلاثون شهرًا، وقال: «والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين»، أي أن مدة الرضاعة سنتان. إذاً فالرضاعة أربعة وعشرون شهرًا، والحمل يمكن أن يكون ستة أشهر.

أول إعلان تجاري

كان هناك تاجر من الكوفة قدم إلى المدينة المنورة بخُمر (جمع خمار)، فباعها كلها وبقي الأسود منها لم تقبل عليه النساء، وبقيت البضاعة كاسدة في وجه صاحبها. وكان التاجر صديقاً لشاعر مكي مقيم في المدينة المنورة اشتهر بالغزل.. شكا التاجر لصديقه ما حدث له، فقال له صديقه لا تقلق سأبيعها لك.. ثم أنشد:

قل للمليحة في الخمار الأسود

ماذا فعلت بناسك متعبد

قد كان شمّر للصلاة ثيابه

حتى وقفت له بباب المسجد

ردي عليه صيامه وصلاته

لا تفتنيه بحق دين محمد

فانتشرت الأبيات بين الناس وأقبلت النساء على الخمار الأسود وباع الكوفي بضاعته ومضى في سبيله.. ويقال إن هذه الأبيات كانت أول إعلان تجاري في التاريخ.