مع احتفالاتنا الشعبية في المملكة العربية السعودية، بمرور تسعين عاماً على التوحيد، كان للعرضة السعودية دور بارز، وتحتلُ جانباً مهماً من التاريخ الوطني للمملكة، حيث كانت ومازالت حاضرةً في الوجدان الشعبي والثقافي لأبناء هذه البلاد منذ بزوغ فجره العظيم، وما تمثله العرضة من إباءٍ وشموخ وعزةٍ وفخر، لاسيما وهي التي ينضمُ تحت لوائها ويلتحفُ ببيرقها فرسانُ الشجاعةِ وشجعانُ الفروسيةِ، فيؤدونها عند الاستعداد للمعارك أو بعد تحقيقِ الانتصار، فتحفلُ بها قلوبُ الناس وأفئدتُهم بمشاعرَ دافقة وأهازيجَ مرافقة تعبّرُ عن عزةِ النفسِ وتُشعلُ جذوةَ الحماسة وتحكي نشوةَ النصر للدين ثم المليك والوطن.

العرضات باختلافِ مسمياتها وأهازيجها ومناطقها في وطننا الغالي لها طابعٌ خاصٌ يختلفُ عن موروث الدول الأخرى، الذين ينظرون لرقصاتنا الشعبية على أنها رقصة حرب، وهذا هو التفسيرُ الذي يقرؤه من يبحثُ في ثقافتنا وإرثنا عن العرضةِ السعوديةِ في كتبِ التاريخ والتراث عن بلادنا، وما تمثلهُ من عمقٍ سياسيٍ واجتماعيٍ في حياتنا وطابعِنا الشعبي والوطني، نبعت في الموروث الثقافي الوطني والطابع الشعبي كرقصةِ حربٍ يؤديها الرجالُ بألبسةٍ وطقوسٍ خاصة.

لقد نشأت العرضةُ في بدايات تكوينها على هذا الأساس مع انطلاق ملحمةِ توحيدِ البلاد على يد الملك المؤسس عبدالعزيز - طيب الله ثراه - فكانت أهازيج حربٍ تشحذُ همم المقاتلين، وتُشعلُ جذوةَ الحماسة في نفوسهم للدفاع عن دينهم ووطنهم وأهلهم، ثم ما تلبثُ أن تتحولَ رقصةُ الحرب تلك إلى ابتهاجاتِ نَصر واغتباطاتِ بِشر ونشواتِ عزٍ وفخرٍ بالتغلب على الخصوم واندحار الأعداء. وما يؤكدُ نشأة العرضة لدينا كرقصة حرب استخدامُ السيوف اللامعة وإبرازها ورفعها بأيدي المشاركين في العرضة تعبيراً عن انتصارهم وغَلَبَتهم. مختلفة عن ترجمة نشوة الانتصار عند الثقافات والحضارات الأخرى، هذه النشوةُ لم تكن في ظاهرها لإشاعة الفرح بقدر ما تمثله من حربٍ نفسيةٍ لإخافة العدو، وشحذِ همم النفوسِ التي تدافعُ عن أرضها وأهلها، وتبذلُ أرواحَها فداءً لحماية وطنها وشعبه.. هذا ما تمثلهُ العرضةُ لدينا إلا أن طابَعها الخاص، كونها رقصةَ حربٍ رجولية محترمة، يكون منطلقُها وهدفُها الأسمى الدفاع عن الدين كمرتكزٍ أساسي إلى جانب الذودِ عن الأرض والعرض، طابعها الخاص، هو ما يميزُها بجود العلم الوطني السعودي المميز بشهادةِ التوحيدِ الخالدة مسطرةً عليه، فلا تقامُ العرضةُ إلا ويتوسطها البيرقُ الشامخُ ملتحفاً به دوماً في المناسبات الرسمية حماةُ الدين والوطن. فكان الدفاعُ واجباً عن الدين، مقروناً بالذود عن السيادة والوطن وأهله.

لقد ظهرتْ مُنذ زمنٍ بعيدٍ عبارةٌ تختصرُ أولوياتِ التضحية، وتُبرزُ أهدافَ الفداء، طبقاً لمعتقدِ وإيمانِ إنسانِ هذه الأرض، هذا المعتقدُ الذي يعتبرُ أساساً ونبراساً لما قامت عليه بلادُنا، دولةُ الإسلام الخالدة بإذن الله، وذلك باتحاد الدين والدولة والحاكم والوطن والشعب، فأصبحتْ تلك العبارةُ شعاراً لا تماثله شعارات الدول الأخرى ولا تناظره أسسُ الأمم الأخرى وهو: (الله، ثم المليك، والوطن)، فكان ومازال شعاراً خالداً وشرفاً مجيداً، تشربت معانيه عقولُ وقلوبُ أبناء هذا الوطن الأبيّ، وهو يعبّرُ بحقٍ عما تُكنّه نفوسُهم وما يختلجُ في صدورهم تَعبداً للمولى عز وجل ونصرةً لسنة نبيه المصطفى عليه الصلاة والسلام، وفداءً ووفاءً وسمعاً وطاعةً للقادة الغرّ الميامين ملوك هذه البلاد المباركة، وصوناً وحفظاً لموئل الأهل وأرض الآباء والأجداد.

مع انتصارات الملك عبد العزيز بن عبدالرحمن - طيب الله ثراه - ورجاله الأشاوس في معاركَ عديدةٍ ومفصليةٍ في التاريخ الوطني لتوحيد البلاد، كانت العرضةُ السعوديةُ المعبّر عن حالِ المؤسس ورجاله، فكانت العزيمةُ حاضرةً في النفوس، والفرحةُ عامرةً في القلوب، فظهرت مقولةٌ غاية في الولاء والود والفخر والإيثار، وكأنها ميثاقٌ غير مكتوب، وعهدٌ متجذر في قلوب رجال الملك وأفراد جيشه وشعبه الذين ينتصرون برجولة واحترام ويلعبون العرضة بعزةٍ وكرامةٍ ثم يرددون في نهايتها وهم مسرورون فخورون.

(تحت بيرق سيدي: سمعاً وطاعة)، كانت المسك في ختام المعركة، وكالشهد بعد الانتصار، وأصبحت تلك المقولة بعد ذلك تأكيداً للولاء واستمراره ورمزيةً لختام العرضة إلى يومنا الحاضر، هذه العرضة بكل فصولها ومشاعرها تعتبر أساساً رقصةَ حربٍ، قبل أن تكون رقصةَ أفراحٍ ومناسباتٍ وأعياد.

اليوم، ونحن نعيش في هذا العهد الميمون تحت ظل خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز - حفظه الله - وسمو ولي العهد الأمين محمد بن سلمان - رعاه الله - ومع استتباب الأمن وطمأنينة العيش واستقرار المجتمع والدولة، أصبحنا نتذكرُ ونستعيدُ هذه العرضات في المناسبات الوطنية والأعياد، كأهازيج أفراحٍ وسرورٍ ولله الحمد والشكر، خاصةً في مناسبات الوطن، حيث تُذكّر تلك الرقصات الناسَ بأنّ هذا الكيان العظيم لم يلتئمَ شَملُه وتتجذرَ أركانُه ويعظمَ شأنُه وسلطانه إلا بتوفيق الله تعالى ثم بمعاركَ ووقائعَ داميةٍ وتضحياتٍ وأرواحٍ، كانت فداءً للذود عن العقيدة والوطن، قادها مؤسسُ هذه البلاد الملك العظيم عبدالعزيز - طيب الله ثراه - في الوقت نفسه الذي تبعث فيه تلك الأهازيجُ السرورَ والسعادةَ، فيَفرحُ الناسُ ويسعدون ويبتهجون بوحدةٍ وطنيةٍ شعبيةٍ تجتمعُ فيها القلوبُ والأيدي لترفعَ رايةَ التوحيدِ وتعليَ شعارَ الوطنِ الغالي بسيفيه ونخلته: نخلة العطاء والوفاء والمحبة والسلام، وسيفي الحزم والسيادة والعدل والسلام أيضاً.

مشاعر فيّاضة، ومهجٌ جيّاشة، تنبضُ بأحاسيسَ جارفة، ومعانٍ سامقةٍ تمثلها رقصة الحرب الأبية بكلماتها وحركاتها، وتمازجِ أشجان أفرادها، وشعورهم بنخوة، بكلماتٍ صاغها رجالٌ اصطفوا مع قائدهم المؤسس على خط المعركة مثلما اصطفَ هو معهم تحت بيرقِ الوطنِ بعد انتصارهم، فكتبوا بمشاعرهم وما في قلوبهم كلماتِ الولاء والإيثار، وعباراتِ المحبة والتضحية لقائدهم الملهم، وصاغوا باعتزازهم وما في نفوسهم أشعارَ الفخر والعزة، وقصائدَ النصر والكرامة لبلدهم الأشم، لينشدوها بعد ذلك ويشاركهم البطلُ في تظاهرةٍ احتفاليةٍ تُشيعُ البهجةَ في الخواطر وتَسعدُ بها البوادي والحواضر.

لقد تكررت تلك المشاهدُ كثيراً بحمد الله، فكان - طيب الله ثراه - يستمتعُ بنشوةِ المشاركة في أداءِ العرضة مثلما يستمتعُ رجالُه وأفرادُ شعبِه بترديد أبيات وقصائد العرضة وأدائها بمعيته وتحت لوائه وإمرته، وأصبح أبناؤه الملوك والأمراء من بعده يشاركون شعبَهم وأهاليهم مناسباتِ وأفراح الخير والعطاء والنماء في كل مراحل نهضة وبناء هذا الوطن.

‏ ولو استعرضنا من كلمات نشيد العرضة النجدية السعودية نماذجَ معبرة لما اتسعَ المقام، وذلك لتنوعها واختلاف مناسباتها وتعدد قصائدها، ولا شك أن في قراءةِ واستيعابِ معاني تلك القصائد أو مشاهدتها والاستماع لها وسبرِ معانيها ما يشرحُ الأثرَ الإيجابي الذي تتركه في النفس وينشرحُ لها القلبُ وتسعدُ بها العين. ومن أشهر قصائدِ العرضةِ السعوديةِ التي تترددُ في كثير من المناسبات، تلك التي يعرفها كلُ الشعبِ السعودي والعربي للشاعر عبدالرحمن بن صفيان - رحمه الله - وهي إحدى حربياته في الشعر الوطني المشرّف:

نحمد الله جت على ما تمنّى - من ولي العرش جزل الوهايب

خبّر اللي طامعٍ في وطنّا - دونها نثني الى جت طلايب

ياهبيل الراي وين انت وانّا - تحسب ان الحرب نهب القرايب

واجد اللي قبلكم قد تمنّى - حربنا لي راح عايف وتايب

إلى أن يقول:

لي مشى البيرق فزيزومه انّا - حِنْ هل العادات واهل الحرايب

ديرة الاسلام حامينها انّا - قاهرين دونها كـل شـارب

كما تأتي قصيدةُ الشاعر فهد بن دحيم - رحمه الله - ضمن أبرز قصائد العرضة السعودية والتي يقول في بعض أبياتها:

نجد شامت لابوتركي وأخذها شيخنا - واخمرت عشاقها عقب لطم خشومها

لا بكت نجد العذية تهل دموعنا - بالهنادي قاصرين شوارب قومها

صعبةٍ أفعالنا لا بغاها غيرنا - وكلمة التوحيد حنا عمار رسومها

مرخصين ارقابنا لا زهمنا شيخنا - والقبايل كلها شيخنا قيدومها

وللشاعر محمد العوني أيضاً قصيدة بارزة في تاريخ العرضة السعودية قالها في يوم معركة البكيرية الشهيرة سنة 1322هـ، يقول فيها:

منّي عليكم ياهل العوجـا ســلام - واختص ابوتركي عَمَى عين الحريب

يا شيخ باح الصبر من طول المقام - يا حامي الوَندَات يارِيف الغَريب

اضرب على الكايد ولا تَسمع كلام - العز بالقلطات والراي الصليب

لو ان طعت الشور يالحر القطام - ما كان حشت الدار واشقيت الحريب

أكرم هل العوجا مَدَابيس الظلام - هم درعك الضافي إلى بار الصحيب

أما أول قصيدة قيلت بعد استرداد الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه - للرياض، فكانت قصيدة الشاعر عبدالرحمن الحوطي - رحمه الله - الذي استبشرَ مع أهالي الرياض صبيحةَ يوم "5/شوال/1319هـ" عندما نادى المنادي بعد ذكر الله والصلاة والسلام على رسوله قائلاً: الملكُ لله ثم لعبدالعزيز بن سعود، فتوافدَ الناسُ من كل مكان ليعبّروا عن حبهم وولائهم لـ آل سعود، فبايعوا الملك البطل عبدالعزيز على السمع والطاعة، بعدها أمر الملكُ أن تقامَ العرضة، فكان الشاعرُ الحوطي حاضراً بقصيدته التي صاغها في ذلك اليوم والتي نالت الإعجاب وتفاعلَ معها الحضورُ وأصبحَ الناسُ يتغنون بها في الكثير من المناسبات، حيث يقول الشاعر الحوطي:

دار ياللي سعدها تو ماجاها - عقب ما هي ذليله جا لها هيبه

جو هل الدين والتوحيد وحماها - واذهب الله هل الباطل واصاحيبه

قام عبدالعزيز وشاد مبناها - شيخنا اللي بحكم الشرع يمشي به

إلى أن قال:

يوم شفته بعيني طاب ممساها - طير حـوران شاقتني مضاريبه

وغير ذلك من القصائد المعبّرة بصدقٍ عن الحماسة والفخر والولاء، وغيرها من المواقف والوقائع والأحداث التي أثبتت صدقَ نيةِ وشجاعة ووفاء المؤسسِ "رحمهُ الله" ومحبةَ وإخلاصَ وولاءَ رجالِه وأفرادِ شعبه، منذ تأسيس البلاد وحتى يومنا الحاضر الزاهر بقيادة خادمِ الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز - حفظه الله وأيّده - وسمو ولي عهده الأمين الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز - حفظه الله وسدده -، إنها المعاني والشواهد التي تختصرُ كثيراً من التحليل والدراسة والفهم عن سياسةِ الحاكم وكياسةِ المحكوم، وتعبّر بصدقٍ وإخلاصٍ نحو عمقِ وتمازجِ القيادة والشعب في بلادنا الغالية المملكة.

العرضة السعودية، تسهم في كل الحالات بنشر ثقافتنا وموروثنا القيم، والتي تعطي انطباعاً باهرًا يرسخ في الأذهان عزّة الوطن وشموخه.. فأسألُ اللهَ أن يديمَ علينا المسرات في ظلِ رعاية الله وعناية القيادة الحكيمة لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز - أيده الله - واهتمامِ الولاية الأمينة لولي العهد الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز "حفظه الله وسدّد خُطاه".

الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن «طيب الله ثراه»
العرضة السعودية تقليد تراثي بالطبول والسيوف الصقيلة
الملك عبدالله بن عبدالعزيز "رحمه الله" أثناء تأدية العرضة
الملك فهد بن عبدالعزيز "رحمه الله" يرفع سيف النصر في العرضة
الملك فيصل بن عبدالعزيز "رحمه الله" خلال رقصته العرضة
الملك سعود بن عبدالعزيز "رحمه الله" يلعب العرضة في احتفال شعبي