عادت أغنية "غدار أعرفك يا بحر" للواجهة من جديد، بعد جولة رئيس هيئة الموسيقى جهاد الخالدي إلى منطقة الأحساء والتجول في حضارة الموسيقى ورموزها وتكريمهم. البحر الذي طالما سلّت أمواجه سيوف الغدر! هل تذكرتم هذه الأغنية؟
كان للإعلام دور بارز في بلوغها ذائقة المخضرمين من جمهور الثمانينات من القرن الماضي، مرسخاً قيمتها الفنية ضمن الموروث.
المغني العتيد محروس الهاجري الذي توارى عن الأنظار والشهرة، قدّم في ذلك الحين مجموعة خالدة من الأعمال من ضمنها "غدار أعرفك يا بحر"، جيل كامل يحفظ هذه الأغنية، مازالت تخلد في ذاكرته، مازالت تجلجل وجدانه، يتذكرون كلماتها العذبة وتصوير جمال لحنها في نقل صورها "الزمكانية" بهذا الإرهاف.
كان الشاعر جواد فارس الشيخ، يحكي قصة عن أشياء أخاذة، يصف شيئاً ما في البحر، هؤلاء لهم في "الزمكان" علاقة صِلة ببيئتهم التي عاشت جماليات شواطئ "العقير" ما قبل التاريخ وواحة الأحساء الخضراء. على ما يبدو تلك العلامات الفارقة التي تصدرها محروس جاءت لتتغلغل في ذاكرة السعوديين قاطبة.
غدار أعرفك يا بحر
ضحكة أمواجك تسل سيوف
تطعن في الظهر..
هكذا كان يبرهن الهاجري معتلياً القدرة التي صنع أجراسها جواد، وقرأها الملحن القدير عبدالرحمن الحمد، في أوصاف مموسقة ترتقي بذائقتنا. "الزمكان" يعني شيئاً مهماً عندهم، بوصفة النهام الذي ينشد المواويل على ظهر مركب، دائماً مثل تلك الأغاني الجميلة التي تحمل بين طياتها سباقات الزمن لا تلبث إلا وأن تعاود الركض رغم شيبها.
كان أهل الخليج يهتمون بجلب اللولو والمرجان من البحر، هكذا هي الصورة على ما يبدو، لكن فاصلاً من "الثوب الحرير" أتى لفضح ما يمليه جواد ويصدح فيه الهاجري الذي يناجي عشيقته، البحر دائماً هو الفيصل عند أهل الخليج، ما زال في هذه الأغنية العتيقة، يغير المتغير، حيث النغم والجرس المموسق ليكون صورة طبيعية غير مزخرفة كمثيلاتها في نهضة الأغنية وحلاوتها في الزمن الجميل.
خذ يا بحر كل ما تبي
اللولو والمرجان والثوب الحرير
في منطقة الأحساء، فن مختلف، لم يدخل عليهم "فن منقول" يشوّه معالم أرضهم الخصبة، هذا بلاشك جعل من مجتمعهم مُحباً للفن، يتعاطونه حتى في زمن الصحوة، لديهم من الجمال ما جعل التنوع النغمي والتصوير الموسيقي "مهيباً"، حيث مازلنا نحلم بعودته في ظل التطور التقني والتسويق في "وسائل التواصل الاجتماعي"، كانت أدوات التسجيل عند محروس الهاجري بسيطة، تلاشت على ما يبدو، لكن نتيجتها حصيلة من الأعمال الوجدانية.
الصورة الحقيقية لأهل المنطقة التي جسدها الفنان القدير محروس الهاجري في نقل المعاناة وصدقها في البعد والغربة، جاءت تواصلاً عند "فدوة لكم" نزولاً إلى القرار عند جملة "يا عيون هلي" هذا تفسير ونقل للاحترام الحسي والتصوير الصحيح لكل كلمة تُغنى! حاله المستردة في كل أجزاء العمل، للعودة إلى الأشياء و"الزمكان" ورومانسية الأحزان في "بس يرجع" التي نفضت مكنون العشاق.
أشخاص وزمان ومكان، كوّنت لنا صورة حقيقية لنبوغ الفن الحساوي والنهضة الأولى "الحضارية".
التعليقات