في بدايات الحداثة للأغنية السعودية، ظهر اسم سلامة العبدالله «الشمري» الحائلي الأصل «1945 - 2007»، الذي بكر مع المبكرين المؤسسين، حاملا على عاتقه لوناً وشكلاً مختلفاً بين أقرانه الفنانين.. كان موسوعة من التراث العميق المنسجم مع السيكولوجيّة التي نمى عليها سلامة.

جاءت موسيقاه ولونه لتأكيد الأسطورية البكائية والحرمان، والتي ضَّلت ترافقه في أعماله الغنائية أينما حلّت. هذا التفاعل في بداية الستينات الميلادية «أسهر الليل» مع الشاعر محمد بن هذال الدوسري ليرافقها «يابو العيون الكحيلة»، لكنه لم ينس في بداية الصعود شاعرا فتيا يسمى أحمد الناصر الشايع - رحمه الله - الذي صدح من أشعاره «والبارحة يوم العباد رقود» هذه بالذات رافقت السامري الجماعي بعد تأسيس الأغنية الشعبية المنفردة، لم يكن مقلدا من سبقوه إلى هذا الحدّ في استثمار اللون السامري، إنما هي ثورة نقل الأغنية الجماعية للفردية. وهي التي ملأت الفراغ بأغانٍ ذات نكهة مختلفة وموسيقى معبرة عن مشاعر الطبقة الكادحة في ستينات وسبعينات القرن المنصرم. لكن فضائية الفكر والتطوير الفعلي واستغلال القدرات، ساهمت في «هلّ دمعي على خدي نهار الوداع»، والتي كانت مثار اهتمام الناس ومتابعتهم. ليؤسس رحلة جديدة مع شعراء تلك المرحلة في عالم الأغنية والموروث الفني الكبير.

تفسر تلك الأغاني في تلك الحقب المليئة بالأحزان «الفراق، الحيرة، الآلم، اليتم» مساحة تحفيزية عند سلامة. فقد توفي والده وهو لم يناهز الرابعة من عمره، بقي وحيداً بعد زواج والدته، هناك رحل إلى مكة المكرمة لعمته التي جرّته إلى آفاق بعيدة، تعلم من خلالها القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم في المسجد الحرام، قبل أن ينتقل إلى الطائف مع عمته.

في ذلك الزمن، كان الشاب عند «13» يسمى شابا فتيا، هذا ما جعله يعتمد على نفسه ويترك «المدرسة»، فكر أن يلتحق كعامل في شركة «بن لادن» والتي كانت تؤسس طريق الهدى، في تلك المرحلة، لم يكن المجتمع السعودي منغلقاً ونرجسيا في أسلوب وطريقة تعامله مع الأشخاص العاملين!. شارك في «كرا» كعامل يحمل الحجارة بيده، يعتبرونه أصغر عامل لديهم. على تلك المرتفعات الشاهقة، أحسن استغلال وقت الفراغ في تعلم آلة «السمسمية» قبل أن يتعلم على آلة العود «الجالون».

«وداعة الله»

ظلت موسيقى سلامة العبدالله - رحمه الله - تمتلك وجدانه وتواسى أحزانه وحرمانه من كل شيء بعد ستة سنوات ذهب إلـى الرياض، ليلتقى بوالدته وزوجها في سن «19» عاما، طلبوا منه البقاء والعيش مستقراً معهم.

انتهت حياة الغربة ليراكب إبداع الفكرة.. لم يكن مقلداً للشعر كما هي بعض موسيقاه، كانت تلك الكلمات تخرج من فؤاده اعتصره الألم، قال في بعض مؤلفاته الشعرية 1966م، «مل عين جزت والنوم ما جاها»، وقال أيضاً: «وداعة الله والسلام»، وغيرها من التي لم تبلغ حنجرته إلّا البكاء وذكريات آلمة.

تلك الحياة التي مارسها سلامة، كانت تصل لمستعميه عبر حنجرة «ذهبية» رغم تنوع اللهجات والبقع التي سكن فيها، لكن «حايليته» لم تزل تتدحرج على لسانه، عمل هناك وسكن هنا، في كُل بقعة أعطته جمالا وتميزا، روج للسامري وتنوع في أعمال الموسيقى البيئية والصعاب فيها. مرّت السنين والعمل الذي يكبر معه «سناً واسماً»، اعتبروه مساهما حقيقيا في رواج الأغنية السعودية وتنمية ثرائها في الخارج، أكثر من «45» عاما كانت صياغة للحالة الفنية للسعوديين، تراوحت حينها أنماط موسيقية لحضارتنا الفنية المختلفة. لم تقتصر أهمية الرياض عند سلامة العبدالله، كونها نقطة الانطلاق الحقيقية في مشواره الفني، ولا على كونها المكان الذي استقر فيه، كان بين أوساط النخب والإعلام، فقد مثلت له المكان الذي دقَّ فيه ناقوس الفرح، عندما تمكن استدراك لونه الخاص وتقديمه والسيطرة على سوق الأسطوانات في نجد ومن بعدها الكاسيت في عقدي الستينات والسبعينات، هذه الأفكار جعلته يبدأ تدريجياً في اكتشاف أن وزارة الإعلام ستصدر آن ذاك قراراً للنسخ الأصلية وترتيب محتوى الأغاني والمؤسسات المنتجة، بديلاً عن العشوائية التي يمارسها البعض من الفنانين ومحلات التسجيل. أراد سلامة أن يعوم للضفة الأخرى التي يعترف من في الساحة الثقافية أنه كان من أوائل الفنانين وصولا لبر الأمان في ترتيب أعماله وأعمال الفنانين الآخرين.

لكن سرعان ما تحولات الأحلام إلى واقع في ثمانينات القرن الماضي، فقد أنشئت أول شركة إنتاج بين الرياض والقاهرة تحت اسم «هتاف» ودشن أول استديوهات التسجيل الغنائي - زرته صغيراً - لم ينس سلامة بداية المشقة، عاد عكس عقارب الساعة ليُعيد إنتاج أسطواناته وأعماله القديمة ويقدمها لجيل الثمانينات والتسعينات.

هذه الثقافة عكست واقع الأغنية الكلاسيكية التي قدمها سلامة العبدالله، أتت حينها بأبعاد ثقافية أدبية لها عمق وأثر، وتفاعل حميمي بينه وبين ما يقدمه، عندما مزجت بين الثقافة السوداء «الأغنية» والمنبوذة عند الناس والبيضاء المتعارف عليها شعراً، إلّا أن ذلك المزجّ جعلها وليفة لدى عامة الجمهور والناس. يعترفون كلهم أنه جزء من تاريخهم ولطافتهم، وجامعُهم عند المعاناة وعند الفرح واللقاء، مازال مسيطراً على الذوق الكلاسيكي كما كان سابقاً.

عند المحيط الآخر من الألم والحرمان تجلى سلامة العبدالله في معاناته، كان يلازمه في وقت متأخر من حياته عندما توفيت زوجته «أم عبدالله»، وداهمته الأمراض لأسباب فقدِها، هذه التراكمات أعادت الذاكرة واسترجعت مشوار الطفولة، أحزان تلازمه منّذ الصغير عاد إليها في الكبر.