الحكمة والسداد والاتزان لا يظفر بها إلا من يقرأ التاريخ جيداً ويتحلى بالصبر وبعد النظر والاستفادة من كل الإمكانات المتوفرة لدراسة القرار من كل جوانبه، وكان الملك عبدالعزيز رحمه الله مثالاَ لبعد النظر وسداد الرأي، يستمع جيداً لرأي مستشاريه، وهم من مختلف الجنسيات ثم يتخذ ما يراه..

في الهند وفي القرن الثامن عشر، وتحت حكم الاحتلال البريطاني رأت السلطات البريطانية أنه يوجد الكثير من أفاعي الكوبرا السامة تنتشر في طرقات العاصمة دلهي، وكانت تزعج حياة المستوطنين البريطانيين وعائلاتهم، ولحل المشكلة عرضت السلطات مكافأة مالية مقابل كل أفعى ميتة يأتي بها الأهالي، فما كان من أصحاب الجرأة منهم إلا أن أخذوا يربون الأفاعي ويزيدون من تكاثرها، ليكسبوا المزيد من المكافآت، واكتشفت الحكومة ذلك فألغت المكافأة، وهو ما أغضب مربي الأفاعي فما كان منهم إلا أن أطلقوا أفاعيهم التي ربوها في الطرقات، وبذلك تضاعف عدد الأفاعي في الطرقات ثلاث مرات عما كانت عليه قبل مشروع الحكومة للقضاء عليها.

المثال الثاني لقرار خاطئ وهو قرار مصيري لا يقارن بما قبله، هو قيام اليابان بالهجوم المفاجئ على قاعدة بيرل هاربرالبحرية الأميركية في عام 1941، وكان الهدف منه القضاء على القوة البحرية الأميركية بضربة مفاجئة وقاصمة تمنع الولايات المتحدة من التدخل في الحرب العالمية الثانية، لكنه بدلاً من ذلك عمل العكس تماماً ووحد الشعب الأميركي خلف حكومته ومواردها الضخمة، ولم تكتفي أميركا بتدمير القوات البحرية اليابانية، بل دمرت اليابان بأكملها. كانت نظرة اليابان تكتيكية لم تأخذ في حسابها جميع ردود الأفعال المحتملة، أما ما قامت به أميركا فكان استراتيجياً طويل الأمد.

والتاريخ الحديث في العالم العربي يعج بالأمثلة الكثيرة من القرارات الخاطئة التنموية والعسكرية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية، خصوصاً القرارات المصيرية كحرب الرئيس صدام حسين مع إيران التي وحدت الشعب الإيراني وأتاحت لحكومة الملالي تصفية المعارضين، وخصوصاً مجاهدي خلق، ثم غزوه للكويت وما خلفه من دمار للعراق وتشتيت لوحدة العالم العربي.

وعلى النقيض من ذلك نجد أن القرارات التي تعطى ما تستحقه من دراسة ومن قبل المختصين تكون هي الأقرب للصواب، أتذكر في منتصف السبعينات حين ابتعثت للطيران في قاعدة راندولف الجوية في سانانتونيو، لم يكن الطيران مسموحاً في الليل، وحين سألت قائد السرب عن السبب أجاب: في الليل تطير في سماء القاعدة أعداد كبيرة من الخفافيش تؤثر على سلامة الطيران. وحين سألته: ألا يمكن مكافحتها؟ أجاب: أوكلنا لإحدى الجامعات المتخصصة دراسة هذه الظاهرة وحلها، وقد وجدوا أن الخفافيش تخرج من مغارة كبيرة ومن السهولة القضاء عليها، لكنهم وجدوا في دراستهم أن هذه الخفافيش تأكل في كل ليلة من خمسة إلى عشرة أطنان من الحشرات، لذا كان القرار هو أن يتدرب الطلبة على الطيران الليلي في قاعدة أخرى بعد تخرجهم، وتبقى الخافيش لتؤدي دورها في توازن البيئة.

ومن أمثلة القرارات العلمية المدروسة إطلاق أربعة عشر ذئباً في متنزه "يلو ستون" الأميركي الذي أصبح يعاني من التصحر بسبب كثرة الغزلان، وقد تسبب إطلاق الذئاب في المتنزه على إجبار الغزلان لتغيير سلوكها، فلم تعد تستقر في مكان واحد وقلّت أعدادها، وهو ما جعل البيئة تستعيد عافيتها، ومع عودة الغطاء النباتي عادت الزواحف ومعها عادت الطيور الكاسرة التي تتغذى عليها، ومع نمو الأشجار الكبيرة عادت جداول الأنهار إلى مجاريها القديمة، كل ذلك بسب إطلاق الذئاب في المتنزه.

جبل الله الإنسان على رؤية الحاضر وعدم النظر إلى الأهداف البعيدة، واتخاذ القرارات كردود أفعال فقط، سواء على مستوى الأفراد أو المؤسسات أو الدول، وهذا هو ما جعل شركات كبيرة تنهار ودول تتفكك، والغريب أنه في كثير من الأحيان تكون الأسباب متشابهة ومكررة.

الحكمة والسداد والاتزان لا يظفر بها إلا من يقرأ التاريخ جيداً ويتحلى بالصبر وبعد النظر والاستفادة من كل الإمكانات المتوفرة لدراسة القرار من كل جوانبه، وكان الملك عبدالعزيز رحمه الله مثالاَ لبعد النظر وسداد الرأي، يستمع جيداً لرأي مستشاريه، وهم من مختلف الجنسيات ثم يتخذ ما يراه، وقد يتفق أو يختلف عما أوصوا به، فقد كان يرى ببعد نظره ما لا يرونه أحياناً. وقد اشتهر مستشار الأمن القومي هنري كيسنجر بجودة قراراته، والسبب أنه يكلف مستشاريه بدراسة ما يحال إليه بعناية، وبعد أن يطلع على نتائج الدراسة يعيدها إليهم للمزيد من الدراسة والبحث عن المزيد من الحلول، وأحياناً يعطيه أكثر من جهة لدراسته.

دراسة التاريخ تبين أهمية دراسة القرارات بعناية ومن قبل المختصين لمعرفة أفضل الحلول وجميع الاحتمالات والنتائج غير المتوقعة، وقلما يوجد قرار أو إجراء دون مزايا وعيوب، لكن الأهم أن تكون المزايا هي الأكثر.