منذ البواكير الأولى للإنتاج السينمائي في مطلع القرن العشرين، تعامل المنتج الأميركي مع السينما باعتبارها مشروعا تجاريا فكان ذلك سر نجاحها فناً وصناعة، وهذا ما وفَّر بيئة مناسبة لكي يصبح الفن السينمائي الأميركي قوة ثقافية هائلة على المستوى العالمي، وهذه القوة بقدر ما تحمل من خصوصية محلية في تقديم التسلية إلا أنها ضخَّت من خلالها الثقافة الأميركية والحساسة في النتاج السينمائي الأميركي.
مع جوهرية هذا الهدف تمكنت عجلة الإنتاج من تقديم الفيلم بأجمل صورة، فكانت حريصة على أن تغازل الثقافات الأخرى، وتستميلها إلى حاضنتها، وهذا ما يؤكد على أن الفيلم من وجهة نظر الأميركان أنفسهم ليس للمتعة الخالية من المحتوى الفكري فقط.! إنما كانت العقول التي تدير ماكنة هذا المشروع تسعى إلى أن تجعله جزءا حيويا وأساسيا من الصناعة، بمعنى أن يتحول الفن إلى مصدر جوهري للدخل القومي، بما يعني أن تدخل في هيكليته الإنتاجية قوة بشرية كبيرة قوامها يتشكل من شرائح مختلفة، بينهم نخبة مثقفة من الكتاب والفنانين والحرفيين بكل الاختصاصات والمهارات التقنية، إضافة إلى جيش عريض من العمال المَهَرة، والنتيجة كانت أن هذه القوة الاقتصادية بمرور الزمن وتراكم الإنتاج وتوسعه تحولت إلى قوة ثقافية تتوسع مديات تأثيراتها إلى أبعد نقطة في الكرة الأرضية فترسخ عن طريقها نموذج "الحلم الأميركي" متجسدا بتوفر فرصة الصعود السريع من القاع إلى القمة.
السينما الأميركية بالمحصلة النهائية تحولت إلى منظومة مقنَّنَة لصناعة ثقافة معينة بمواصفات محلية يراد لها أن تكون عالمية وتكون ذراعا قوية لتمرير وهيمنة الخطاب الأميركي الموجه إلى العالم، ولا أظن أن هناك من يختلف مع الرأي الذي يؤكد نجاح هذا الخطاب وشيوعه، خاصة بعد أن سقط جدار برلين مطلع تسعينيات القرن الماضي وانتهت بذلك حقبة الصراع بين القطبين الأميركي والسوفييتي والتي عُرفت اصطلاحا "بالحرب الباردة".
شباك التذاكر للفيلم الأميركي ما يزال يتربع على العرش متوَّجا بأعلى الإيرادات، مثلا، فيلم (جوكرJoker) إنتاج 2019 من تمثيل جواكين فينكس، وصلت إيراداته بعد مضي شهر ونصف على عرضه في الصالات إلى مليار دولار، وهو رقم كبير جدا إذا ما قورن بميزانيته الصغيرة التي كانت "65" مليون دولار، على ذلك لا يمكن بأي حال من الأحوال إجراء مقارنة ما بين الإنتاج الأميركي وجميع النتاجات السينمائية الخارجة من بيئات وثقافات مختلفة سواء في الشرق أو الغرب.
ما يميز الأميركان في تعاملهم مع الفن السينمائي أنهم لم يتخلوا عن فكرة أساسية رافقت تفكيرهم منذ أن اقتحموا عالم الفن السينمائي، وهذه الفكرة تتمحور في سؤال جوهري: هل سيحقق الفيلم الأرباح المرجوَّة؟ وإذا ما تيقنوا بأن لا أرباح يمكن جنيها، لن يترددوا في التخلي عنه مهما كان مستواه الفني مرتفعا أو أن اسم المخرج الذي يقف خلفه يعد في نظرهم من العقول الإبداعية الفذة.

التعليقات