نحتاج إلى عمل قائمة عاجلة تقوم بها وزارة الثقافة، تحدد فيها تصنيفات التراث العمراني الحديث، الذي يفترض أن يشمل الفترة ما بين 1950 حتى 1990م، وتحدد درجات أهمية هذا التراث، وتعطي كل مبنى قيمة ومرجعاً محدداً حسب أهميته، وتعمل على استصدار نظام من أعلى السلطات يحمي هذا التراث الحديث حتى لا تعبث به أيدي العابثين..

لم أعلق شخصياً على الحدث الثقافي والمعماري الجلل الذي حدث في جدة خلال الأيام القليلة الفائتة، فهدم مسجد صممه عبدالواحد الوكيل في الثمانينات من القرن الماضي، وما يحمل هذا التصميم من قيمة تاريخية وثقافية عميقة لا يمسان جدة فقط بل يمسان مفهوم العمارة في المنطقة العربية كافة، فإن هذا يستدعي إعلان طوارئ معمارية وثقافية في مدينة جدة على وجه الخصوص والمملكة بشكل عام. لم ننس بعد هدم الجزء الأعلى من مبنى التلفزيون في جدة، ولم يغب عن خاطرنا حتى الآن إزالة المبنى الأسطواني ومصنع كندا دراي في مدينة الرياض والعديد من المباني المهمة في مدن المملكة كافة، التي أنشئت منذ مطلع الخمسينات وحتى نهاية الثمانينات، هذه المرحلة المهملة في تاريخ عمارة المدينة السعودية التي لا يعطيها أحد أي اهتمام، وكأنها مباحة للهدم والإزالة بدم بارد ودون الرجوع لأي معايير ثقافية تحفظ ذاكرة المدينة السعودية في فترة مهمة من تاريخها وبناء ملامحها الحداثية الأولى. إن فقد هذا الجانب المهم من تاريخ هذه المدينة ستكون عواقبه الثقافية والتاريخية وخيمة في المستقبل القريب.

لن تكون هذه المرة الأخيرة التي تقوم فيها إحدى المؤسسات الحكومية بإزالة مبنى دون الرجوع لأحد طالما لا يوجد شيء يمنعها من ذلك، وطالما لا توجد قائمة تحدد قيمة المباني الثقافية الحديثة في المملكة وتمنع كائناً من كان من المساس بها، فما بات يعرف بتراث الحداثة (Heritage of Modernity ) أصبح جزءاً لا يتجزأ من تاريخ أي أمة، فالنشاط المعماري والعمراني الذي صنع المدينة السعودية الحديثة بكل ما تحمله من إيجابيات وسلبيات يمثل تاريخ السعودية الحديث، ويعبر عن اجتهادات لرجالات كثر قاموا بصنع هذا التراث الحديث. نحتاج بقوة إلى عمل قائمة عاجلة تقوم بها وزارة الثقافة تحدد فيها تصنيفات التراث العمراني الحديث الذي يفترض أن يشمل الفترة ما بين 1950 حتى 1990م، وتحدد درجات أهمية هذا التراث، وتعطي كل مبنى قيمة ومرجعاً محدداً حسب أهميته، وتعمل على استصدار نظام من أعلى السلطات يحمي هذا التراث الحديث حتى لا تعبث به أيدي العابثين.

في حقيقة الأمر لم أتخيل أبداً أن تطال يد الهدم مسجداً يمثل تحفة معمارية مثل أحد مساجد جدة، الذي صممه أحد أهم معماريي العالم العربي والعالم في فترة صعود العمارة المحلية في الثمانينات، وأذكر أنني قرأت لكينيث فرامتون صاحب كتاب "العمارة الحديثة التاريخ النقدي" كيف أنه تحدث عن عبدالواحد الوكيل كقيمة عالمية مهمة في مجال العمارة، ساهمت في إحداث توازن بين الإفراط في الحداثة والإفراط في التاريخ، وأوجد صيغة معمارية متوازنة تعزز من القيمة المحلية وتستكشف عناصرها وجذورها وقيمها الجمالية والمكانية. فعندما تُقدم إحدى الجهات على إزالة هذا المبنى الذي له قيمة مهمة جداً في تاريخنا المحلي المعاصر فإن هذا يعني أنه لا توجد قيمة ثقافية معمارية حقيقية يمكن أن نحتفظ بها، وبالتالي فإن دعوتي لوزارة الثقافة التعجيل بإصدار قائمة بعمارة الحداثة لا يمثل ترفاً أبدًا بل يمثل نزعة ثقافية للمحافظة على ما تبقى من تراثنا المعاصر، خصوصاً أنه مُعرض بشكل شديد لتنافس القيمة السوقية للأراضي التي يقع عليها، فهو مهدد ليس من خلال جهات غير عارفة بقيمة الثقافة المعمارية بل هو مهدد وبشكل أكبر من قبل جهات استثمارية خاصة طامعة في الأراضي التي تقع عليها هذه المباني المهمة والمؤثرة في "أركيولوجية المدينة السعودية المعاصرة".

كما أنني لم أتصور زوال العديد من المباني الحديثة خلال العقدين الأخيرين، كل مرة أشعر بالأسى ولا أنكر أبداً أنني كنت أحد المبادرين للمحافظة على المباني الحديثة، كما أنني لا أنكر محاولة الهيئة الملكية لتطوير مدينة الرياض؛ فقد كان لديها مشروع لحصر وتوثيق المباني الحديثة في مدينة الرياض، وربما لم يكتمل هذا المشروع، وكان زميلنا - رحمه الله - الدكتور سعد بن محمد السدحان حيث إنه بادر ونشر ورقة علمية مهمة حاول أن يسجل فيها العديد من المباني لتراث الحداثة المعمارية في الرياض، كل هذه المحاولات المبكرة لم تحظ باهتمام المؤسسات المتخصصة في المملكة، وربما آن الأوان بوجود وزارة الثقافة وهيئاتها أن تتولى هذه المهمة، وأن تعمل بشكل مباشر وفوري على وضع القائمة التي اقترحناها في هذا المقال، والتي هي بداية العمل الحقيقي للمحافظة على هذا التراث المهم وصونه.