من المقترح أن تتم توسعة مسجد قباء أُسوةً بما شهده الحرمان من التوسعات؛ فإنه لا غنى له عن ذلك؛ لأن توسعة الحرمين وتيسُّر إجراءات العمرة على مدى العام من أسباب تزايد الحجاج والمعتمرين في المستقبل إن شاء الله، فالمتوقع أن المستقبل سيشهد نمواً متزايداً لأعدادهم، ومسجد قباء يستقبل جُلَّ تلك الأعداد، فاقتضت الحاجة أن يشهد توسعةً تليق بذلك..
يختار الله من مخلوقاته ما يشاء، فيفضله بما شاء من المزايا، ولا تثبت الفضيلة إلا لمن منحه الله إياها، وذلك مصداق قوله تعالى: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ويَختَارُ مَا كَان لهُمْ الخِيرَةُ سُبحَانَ الله وَتَعالى عَمَّا يُشرِكُونَ)، وقوله: (وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)، وتتوقف الفضائل الدينية على ثبوت نقلٍ في الكتاب أو في السنة يدل عليها، والفضيلة تثبت لبعض البشر كالأنبياء عليهم الصلاة والسلام والمصطفين من أتباعهم، ولبعض الأزمنة كرمضان، ولبعض الأمكنة كالحرمين، ومن المواضع التي ثبتت لها الفضيلة مسجد قباءٍ، ويتناول هذا المقال وقفات في الحديث عنه:
الوقفة الأولى: تأسيسه: أسس النبي صلى الله عليه وسلم مسجد قباءٍ حين قدم إلى المدينة مهاجراً، فقد ذكر أهل السير أنه -صلى الله عليه وسلم- نزل في أعلى المدينة على بني عمرو بن عوف، وأقام فيهم بضع عشرة ليلة أسس مسجد قباءٍ خلالها، قال الحافظ ابن كثير: "فكان هذا المسجد أول مسجد بُني في الإسلام بالمدينة، بل أول مسجد جعل لعموم الناس في هذه الملة، واحترزنا بهذا عن المسجد الذي بناه الصديق بمكة عند باب داره يتعبد فيه ويصلي، لأن ذاك كان لخاصة نفسه لم يكن للناس عامة"، وقد ذهب جماعة منهم ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه المقصود بقوله تعالى: (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ)، وفي ذلك خلاف، ويرى الإمام ابن القيم أن لا تعارض بين كون الآية نزلت في مسجد قباء وبين الحديث الدال على أن الذي أسس على التقوى هو المسجد النبوي، والأمر كما قال.
الوقفة الثانية: فضله: لمسجد قباءٍ فضلٌ عظيمٌ، يظهر جلياً في أمور منها الأجر العظيم الذي ينال بالصلاة فيه، فعن سَهل بن حُنيف رضي الله تعالى عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ خَرَجَ حَتَّى يَأْتِي هَذَا الْمَسْجِدَ مَسْجِدَ قُبَاءَ فَصَلَّى فِيهِ كَانَ لَهُ عِدْلَ عُمْرَةٍ)، أخرجه النسائي وغيره، وصححه الألباني، وللترمذي وابن ماجه عن أُسَيْدَ بن ظُهَيْرٍ، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (الصلاةُ في مسجد قُبَاء كعُمْرَةٍ)، ومن فضله أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يزوره، فعن ابْنِ عُمَرَ رضي الله تعالى عنهما، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتِي مَسْجِدَ قُبَاءٍ رَاكِبًا وَمَاشِيًا، فَيُصَلِّي فِيهِ رَكْعَتَيْنِ»، وفي رواية: «رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتِيهِ كُلَّ سَبْتٍ»، والحديث متفق عليه، وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه قال: لأن أصلي في مسجد قباء ركعتين، أحب إلي من أن آتي بيت المقدس مرتين، لو يعلمون ما في قباء لضربوا إليه أكباد الإبل، قال الحافظ ابن حجر: "رَوَاهُ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ فِي أَخْبَارِ الْمَدِينَةِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ".
الوقفة الثالثة: نال مسجد قباءٍ عناية كبيرة من لدن حكام هذه الدولة المباركة المملكة العربية السعودية، ولا يستغرب ذلك؛ فللملكة عناية ببناء وعمارة المساجد في الداخل والخارج، وفي بعض الدول تعد الجوامع التي شيدتها المملكة فيها هي أكبر مساجدها، وهذا من مظاهر ريادتها في العالم الإسلامي، ومكانتها المرموقة عند الشعوب المسلمة -شاء من شاء، وأبى من أبى- وإذا كان الأمر كذلك فمن باب أولى أن تهتم بمسجد قباء وهو أول مسجد أسسه النبي صلى الله عليه وسلم، ومن معالم مدينة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهي محل اهتمام لا يُعلى عليه عند ولاة أمرنا -حفظهم الله-، ولا يخفى على زائر مسجد قباءٍ ما يتمتع به من العناية الفائقة، وما سُخِّر لخدمته من الإمكانات، ويظهر ذلك جلياً في المواسم كرمضان وموسم الحج حين يتكاثف زواره، وتكون الخطط المتخذة حيال ذلك كفيلة بسلاسة ذلك، ويتم التعامل مع توالي تلك الجموع كما ينبغي.
الوقفة الرابعة: من المقترح أن تتم توسعة مسجد قباء أُسوةً بما شهده الحرمان من التوسعات؛ فإنه لا غنى له عن ذلك؛ لأن توسعة الحرمين وتيسر إجراءات العمرة على مدى العام من أسباب تزايد الحجاج والمعتمرين في المستقبل إن شاء الله، فالمتوقع أن المستقبل سيشهد نمواً متزايداً لأعدادهم، ومسجد قباء يستقبل جُلَّ تلك الأعداد، فاقتضت الحاجة أن يشهد توسعةً تليق بذلك، ولا شك أن ولاة أمرنا لم يغفلوا عن هذا، ولم يَخْفَ عليهم ذلك، وأن الوقت الأنسب لتنفيذ ذلك إذا حان لم يتأخر قرارهم القاضي بذلك، ونتطلّع إلى أن يتمَّ ذلك على ما يُقرُّ أعينهم وأعيننا.
التعليقات