التوبة تجُبُّ ما قبلها، وباب الله مفتوح، وأدران المعاصي تُنقَّى بالطاعات آناء الليل وأطراف النهار، فلا ينبغي أن يُثبِّط الشيطان المسلمَ بذريعة أنه تخلَّف عن الركب، ولا مكان له بين المحسنين..
من رحمة الله بعبادة وإرادته اليسر بهم أن منحهم وسائل التقرب إليهم، وجعل تلك الوسائل متنوعة ومتعاقبة، وجعلها على السعة، فليست لحظيّة تفوت بمجرد عدم المبادرة إليها، فالمحروم السيئ الحظ من لم ينتفع بهذا التيسير، ولم يستفد من هذه الفرص، وهذا مصداق حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عند مسلم وفيه: (وَلَا يَهْلِكُ عَلَى اللهِ إِلَّا هَالِكٌ)، فما من فترة زمنية منحها المكلف لتقربه إلى ربه زلفى إلا ويمكنه أن يستدرك في أجزائها ما سبق من التفريط إن كان مفرّطاً، أو يزداد فيها من الخير إن كان محسناً، ومن ذلك على سبيل المثال:
أولاً: العمر وهو فرصة تُتاح للمكلف ليعبد ربه، ويقوم بما خلق له من التوحيد والطاعة، ومن ضيّع هذه الفرصة بالكلية، فلم يرفع رأساً لما افترض عليه فيها فلا حجة له يوم يلقى ربه، وسيكون ممن يطلب العودة إلى الحياة لاستدراك ما فوته، لكن ذلك طلب في غير محله، فلات ساعةَ إقالةٍ، وجواب هذا الطلب: (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ)، وفرصة العمر للإنسان أن يُصحِّح فيها مساره، ومتى تاب فقد أناب إلى ربٍّ غفورٍ يحب التوابين، (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ)، وهذه الفرصة ممنوحة للمكلف ما لم يقع شيئان أحدهما كوني عام وهو طلوع الشمس من مغربها، والآخر خاص بكل إنسان وهو الغرغرة وقت الاحتضار، فعَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله تعالى عنه، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا» أخرجه مسلم، وعَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله تعالى عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ، مَا لَمْ يُغَرْغِرْ» أخرجه الترمذي وغيره، وما كان من قبل هذا فإن التوبة تجُبُّ ما قبلها، وباب الله مفتوح، وأدران المعاصي تُنقَّى بالطاعات آناء الليل وأطراف النهار، فلا ينبغي أن يُثبِّط الشيطان المسلمَ بذريعة أنه تخلَّف عن الركب، ولا مكان له بين المحسنين.
ثانياً: شهر رمضان المبارك، وهو من أهم مواسم الطاعات ومن أحسن الفرص لكسب الحسنات والتخلص من السيئات، ويا فوزَ من وفق لمسايرة الشهر كله من أوله إلى آخره صائماً كما افترض عليه، مكثراً من نوافل الخير كما ندب له، يقوم ليله، وينفق لوجه الله، ويُدمن قراءة القرآن الكريم، ولكن لو قصَّر مقصر فتدارك تقصيره، والتحق بركب المشمرين فهنيئاً له إقباله إلى ربٍّ كريمٍ، له في كل ليلة من رمضان عتقاء من عباده يعتقهم من النار، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله تعالى عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ، وَمَرَدَةُ الجِنِّ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الجَنَّةِ، فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، وَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ، وَذَلكَ كُلَّ لَيْلَةٍ) أخرجه الترمذي وغيره.
ثالثاً: مناجاة الله في جوف الليالي في الصلاة وبالأدعية والاستغفار، وهي من فرص الخير التي تُستنزل بها الرحمات، أما قيام الليل فهو من السنن المرغب فيها، وقد أمر به نبينا صلى الله عليه وسلم في غير آية كقوله تعالى: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً)، وقد لبَّى هذا الأمر، فعَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رضي الله تعالى عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى حَتَّى انْتَفَخَتْ قَدَمَاهُ، فَقِيلَ لَهُ: أَتَكَلَّفُ هَذَا؟ وَقَدْ غَفَرَ اللهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، فَقَالَ: «أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا» متفق عليه، وأما الاستغفار فقد أثنى الله على المؤمنين فقال: (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ)، لكن هذه الفرصة ليست مُضيّقة فالليل كله وقت للقيام، وأحسن ما تكون هذه الفرصة عند حلول ثلث الليل الأخير، ولكن لا تكون بحلول الثلث الأخير لحظيّةً، بل تمتد إلى الفجر، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله تعالى عنه، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: (يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي، فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ) متفق عليه وفي رواية لمسلم: (فَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يُضِيءَ الْفَجْرُ) إنها الفرصة العظمى، وها هي تمتد ساعات؛ لينتهزها العبد فيتقرب إلى ربه، وليست مختصة بليلة معينة، بل تحدث كلَّ ليلة.
التعليقات