لم يكن العراقي فلفل كرجي المتوفى في إسرائيل سنة (1983) وحده المعروف بكتابة كلمات الأغاني والفنانة سلطانة يوسف المتوفية (1995)، بل كان عدد من يهود الخليج الذين أثروا الثقافة الإبداعية في إسرائيل رغم حركات النفي من المتشددين «الحريديم»، هذا الارتباط الإبداعي ظهر مع الموسيقي الجارف صالح الكويتي (1908-1986) الذي قدم ملمحاً بارزاً لمكانة الثقافة الشعبية العراقية الممزوجة بالأصالة الكويتية وتأثيرها برفقة شقيقه داود الكويتي (1910-1976)، واللذين أكملا حياتهما في حسّرة الهجرة وذكريات العراق وطفولة الكويت، والتي جعلتهما من أهم الفنانين المؤسسين في النصف الأول للقرن العشرين في الشرق الأوسط.
يستمد اليهود غالباً في إسرائيل ثقافتهم الموسيقية من الأخوين «عزرا»، حين كونا مرحلة مفصلية في تحسين الذائقة الفنية، وتكوين قاعدة بيانات أدبية أصيلة، كان آخر عهدهما عام (1980)، عندما قام شلومو «سليمان» ابن صالح عزرا «الكويتي» بتسريب شريط فيديو عن حفلة قديمة كانت آخر ما قدمه صالح وداود في التلفزيون الإسرائيلي، وغنيا لأم كلثوم «يا ليلة العيد» وأغاني ذات أصول كويتية.. الكويتيون لهم تأثير واضح على ثقافة الغناء وتجليها على السطح الفني، هذه الأسطوانة سجلت قبل أكثر من سبعين عاماً، لكن «شلومو» ابن صالح أعاد توزيعها وإنتاجها عام (2006)، حيث جاءت كحالة إثبات للثقافة المستوردة من الخليج وتداولها بكثرة في إسرائيل.
يقول «شلومو»: «إن الأسطوانة تحتوي على العديد من الأغاني التي كان يغنيها والدي صالح الكويتي، مضاف معها «CD»، آخر لعمي داود عزرا الكويتي والذي اشتهر بالعزف على العود، ومصاحبة والده في الثلاثينات، أثناء الحفلات الغنائية والجلسات التي كانت تقام في الكويت والعراق». هذا الانهمار والتأثير في الثقافة الفنية والتراث الذي تركته الكويت والعراق في ذهن صالح وداود من أغانٍ وأصول تراثية قديمة، اُعيدت في «CD» كمذكرات وثائقية وإبداعية من تأليف صالح، منبعها الساحل الخليجي، بدأت من «زر من تحب، ياليل لدانه، ملك الغرام، يا بديع الجمال، قلبك صخر جلمود، يا حافر البير» وغيرها.
كان الكويتيون سباقون في تقديم الأغاني بصيغ الجلسات الشعبية السائدة آنذاك، في ثلاثينيات القرن الماضي، قدموا من خلالها تحفاً فنية، جلها تَرِكَةً من تراث الراحلين عبداللطيف الكويتي (1904- 1975) ومحمود الكويتي والعراقي خضيري بوعزيز، إلى جانب بعض الأغاني الكويتية القديمة التي كان يتميز بها صالح عزرا عن عبدالله الفرج (1836 - 1902م) «مؤسس الصوت الخليجي» ومحمد بن فارس وغيرهما، من كلمات كويتية أصيلة أخذت من صميم الحياة الاجتماعية والكلمات الحُمينية البارزة في تفاصيل الصوت الخليجي.
شكلت التوأمة بين صالح وداود مساحة أبداعية لشغفهما بالموسيقى منذ الصغر، عند الكويتي خالد البكر الذي علمهما العزف والغناء، استمدا من خلالها المعرفة على الموسيقى العراقية والمصرية، بعد أن تعلما الألحان الكويتية والبحرينية واليمانية والحجازية والاستماع إلى نتاج الأسطوانات. هذه الترسانة المعلوماتية الفنية، جعلتهما يتميزان في الظهور بداية الأمر عند وجهاء المجتمع في الكويت، قبل أن ينتشرا أكثر في دول الخليج.
في أحد أيام عام «1927» رافق صالح عزرا، المطرب الكويتي المعروف عبداللطيف الكويتي الذي تغنى بكثير من القصائد النبطية إلى البصرة لتسجيل الأسطوانات، من هناك كما يبدو بدأت تسميته بصالح الكويتي أسوة بالشهير عبداللطيف، وبعضهم ألمح إلى أن الاسم جاء على إثر ولادته في الكويت، حيث كانت أسرته من يهود مدينة العمارة «جنوب العراق» تتنقل إلى البصرة والكويت للمتاجرة باللؤلؤ مع الهند عن طريق الخليج العربي.
صِلة الفنان صالح الكويتي «العراقي الأصل» بقيت مع الموسيقى الكويتية بعد انتقاله للعيش في بغداد، حيث إن أحد شيوخ البحرين كان يستمع يومياً إلى تقسيمات موسيقية يهديها صالح الكويتي له وكان يطرب لها ويبادله الهدية.
الصراع الأبدي في إعلاء سلم الثقافة الفنية، ساهم في إبراز عزفه المدهش وألحانه لمعظم مطربي ومطربات تلك الحقبة أمثال سليمة مراد، وزكية جورج، ومنيرة الهوزوز وسلطانة يوسف، كما وضع الكثير من المقدمات واللزمات الموسيقية لعدد من الفنانين في الكويت والعراق، قبل أن يستقر بشكل نهائي في بغداد عام (1929)، حيث استمر صالح الكويتي وأخوه يعزفان ويغنيان التراث الكويتي، ويقدمانه للوجهاء الكويتيين الذين كانوا يزورون العراق، ليؤكد حنينه لوطن المولد والنشأة، وفي غالب الأحيان يعودان للكويت لإحياء حفلات للجمهور الكويتي، الذي كان ولا يزال يكن الاحترام والتقدير لاهتمام صالح وأخيه داود بالتراث الموسيقي الكويتي.
هذه الدلالات الواضحة على شدّة ولع الأخوين بالموسيقى البارزة في الخليج، حين أشار صالح عزرا «الكويتي» إلى تطويره للمقام اللامي، الذي في أصله حداء بدوي من تراث قبيلة بني لام العراقية.
يقول (شلومو)، مستنداً على تسجيلات صوتية لوالده صالح الكويتي: بثت من الإذاعة الإسرائيلية، أنه في زيارة الفنان محمد عبدالوهاب إلى العراق عام (1932) تعاون مع والده، عندما اُعجب في (تكنيك) مقام (اللامي) الذي وضعه الفنان العراقي محمد القبانجي، وسمع أغنية (ويلي شمصيبة) من نفس المقام، وغنتها سليمة مراد وناظم الغزالي، وعندما عاد عبدالوهاب إلى مصر استوحى هذا المقام في لحنه لأغنية (يلي زرعتو البرتقال) لتكون أول أغنية مصرية على مقام اللامي العراقي. عبدالوهاب زار العراق أكثر من مرّة، قدم من خلالها عدة حفلات بمشاركة صالح الكويتي في العزف على الكمان في أغنية (خدعوها بقولهم حسناء). إضافة إلى أن أم كلثوم أعادت غناء لحن صالح الكويتي والتي غنته سليمة مراد (قلبك صخر جلمود) عند زيارتها إلى بغداد عام (1935)، قبل أن تعيد هذه التجربة في مصر.
الثقافة الفنية البارزة في إسرائيل خلال العقود الأخيرة، سببها ما كوّنه المبدعون على سطح الخليج في تسجيل الجلسات والبرامج في الإذاعة الإسرائيلية لتكون مواد تعريفية أصيلة، بحكم الظروف والنزاعات عام «1951» التي نشأت بسبب النزاع العربي الإسرائيلي والانتقال الطوعي للمبدعين، حيث ترك الشقيقان صالح وداود الكويتي العراق، منتهين من حقبة الإبداع الفكري والإنتاج الفني الغزير، إلى تأسيس حقبة ثقافية منقولة لمجتمع جديد لم يقدر ما هية الثقافة المنقولة من الخليج، حين تحسّر الأخوان وغيرهما من رموز الثقافة الفنية بالانتقال إلى إسرائيل، وفي كُل مرّة يتمنيان أنهما أطاعا الفنانة اليهودية سليمة مراد زوجة ناظم الغزالي، برفضها الهجرة إلى إسرائيل، قائلة: (لمن أغني في إسرائيل، حياتي في العراق مع جمهوري، ولا حياة للفنان من غير جمهوره).
أغاني صالح عزرا وأخيه داود تبرز دائماً في إذاعة إسرائيل، فمنذ قيام الكيان الصهيوني في نهاية الأربعينات من القرن الماضي، كان الإسرائيليون يستولون على الموروث الذي تركه الأخوان، والذي ألمح فيه صالح الكويتي من خلال الحوارات التي كانت تجرى معه في خمسينيات القرن الماضي، أن هذه الأعمال كويتية وعراقية.
لقد كان الخليجيون مؤثرين في ثقافتهم التي بنوها من القدم في الخليج العربي، قبل انتقالهم الطوعي إلى إسرائيل تاركين خلفهم ثقافة خليجية أصيلة في إسرائيل.
التعليقات