لقد زاد الضغط على الهوية الاجتماعية في عصر العولمة، وعصر سيادة التقنية والتواصل الاجتماعي، بشكل بدأ يفصل الأجيال الجديدة عن تراثهم، وصار اتجاههم نحو العادات الأكثر جاذبية، وليس العادات الأكثر أصالة..

يقصد بالأمن المجتمعي في أدبيات الأمن والسلام: حماية المجتمع من التهديدات والمخاطر التي تتعرض لكل ما يصنف ضمن تراث المجتمع وفنونه الشعبية وعاداته وتقاليده وقيمه وثقافته بمفهومها الواسع، ومن ثم ينبغي حمايتها من الضياع وحمايتها من الحط من شأنها، بوصفها هوية المجتمع التي ترعاها الدولة، وتكمن إشكالية هوية المجتمع أحياناً في وجود صراع خفي بين فئات المجتمع لفرض أجندتها الثقافية بوصفها الهوية الاجتماعية، مما ينتج معه توتر مستمر، قد يظهر على السطح، ويتحول إلى نزاع.

يشير أولي ويفر، وهو من الباحثين البارزين في مدرسة كوبنهاغن لأبحاث الأمن والسلام، إلى أن الأمن المجتمعي يعني قدرة المجتمع على الحفاظ على شخصيته الجوهرية في ظل التهديدات الحالية والمحتملة، والقدرة على الاستدامة والاستمرارية لنماذجها التقليدية من اللغة والثقافة والتقاليد والدين والهوية القومية. ولهذا يؤكد ويفر أن المجتمع مُهدد أكثر من الدولة، ويمكن أن تتغير المؤسسات وأنظمة الحكم دون أن تزول سيادتها، أما هُوية المجتمعات فهي مُهددة نتيجة تزايد الهجرات وسيادة الثقافة والفنون والقيم الدخيلة على المحلية، مما يهدد الهوية المجتمعية والوطنية بفقدان الأمن والاغتراب، ثم بروز الشعور بالعنصرية وظهور العرقية.

تهتم جميع دول العالم بحفظ هويتها وتراثها الثقافي والحضاري، ولكن يوجد عدد من الدول أضفت على تراثها بعداً أمنياً، وصنفت تراثها أو جزءاً منه ضمن ما يسمى "البنية التحتية الحرجة"، وهي القطاعات الحيوية والمباني والمنشآت التي ترمز للهوية، التي يختل نظام الناس الاجتماعي والاقتصادي في حال تعرضها للخطر، مثل الطاقة والنقل العام والكهرباء والمياه، لذلك تكون حمايتها تحت إشراف وزارات الداخلية، أو يؤسس لها هيئات عليا، وقد صنفت ألمانيا مثلاً التراث الثقافي والمباني الرمزية ضمن البنية التحتية الحرجة.

يرى ويفر أن تقوية الهوية المجتمعية باستخدام الوسائل الثقافية لفرض التماسك الاجتماعي، هو أحد أهم الحلول التي تضمن سلامة الأمن المجتمعي، وبالتالي لا ينبغي التعامل مع الهويات الدخيلة المراد غرسها في هوية المجتمع الأساسية على أنها وجهة نظر، وإنما تقبل بوصفها تسامحا وتقبلا للآخر من خلال رسم الحدود بين الهوية المستقرة والهويات المهاجرة.

اهتمت المؤسسات المعنية بحفظ التراث مؤخراً بإعادة اكتشاف تراث مناطق المملكة في عصور تاريخية مختلفة، وإعادته للواجهة، مثل: إبراز آثار منطقة العلا، وترميم الدرعية القديمة وأهم الأحياء التاريخية فيها كالبجيري والطريف، إضافة إلى مشروعات قديمة - جديدة تعكس روح الأمن المجتمعي مثل: تطوير وادي حنيفة التاريخي الذي أعاد دوره الاجتماعي والثقافي وعادت علاقته بالمجتمع والناس بعد انقطاع طويل، ومهرجان التراث والثقافة في الجنادرية، الذي يعد أحد أهم البرامج الثقافية على مستوى العالم العربي، وتعرض فيه المناطق السعودية ودول الخليج تراثها الشعبي وموروثها الثقافي.

وقد يكون من المناسب أن تُعنى وزارة الثقافة وأمانات المناطق والبلديات بجدولة التراث والثقافة والفنون والمنشآت التاريخية والعمارة التي شهدت أحداثاً مهمة أو بقيت في الذاكرة، وتوثيقها، وإعادتها للحياة العامة، ودعم الثقة الشعبية فيها لدى الأجيال الجديدة، والأهم هو تصنيف الثقافة والتراث والفنون بوصفه أمناً مجتمعياً، له عوائد رمزية في حماية الهوية، وعوائد اقتصادية في جذب السياح المعنيين بالتعرف على ثقافات الشعوب.

لقد زاد الضغط على الهوية الاجتماعية في عصر العولمة، وعصر سيادة التقنية والتواصل الاجتماعي، بشكل بدأ يفصل الأجيال الجديدة عن تراثهم، وصار اتجاههم نحو العادات الأكثر جاذبية، وليس العادات الأكثر أصالة، وما تزال المؤسسات المعنية بالتراث والثقافة والفنون تهتم بتراثها بوصفه تراثا متحفيا ينبغي الحفاظ عليه، وليس بوصفه قضية أمنية مؤثرة في هوية المجتمع، مما يعطي مؤشراً واضحاً بأن الأمن المجتمعي يتعرض للخطورة، وذلك لأن عدم الشعور بالمشكلة هو مشكلة أخرى، ولأن المجتمع لا يستقر إلا بوجود هوية جماعية مشتركة، وضمان استيعاب التنوع الثقافي ضمن الهوية الأساسية، وهذا ما ينبغي أن تبني المؤسسات الثقافية رؤيتها على أساسه.

وأفضل ضمانات حفظ الهوية الاجتماعية يكمن في بث الروح فيها وإعادة إنتاج التراث غير المادي، وتفعيل دور التراث المادي، وتوسيع مجالات توثيقه وتحليله والتعريف به.