العُزلة من أهم البواعث التي تدفع الأدباء إلى الكتابة، فلكل عُزلة أزْمـة: نفسيـة أو اجتماعية أو سياسية أو حضارية، ومن عمقِ الأزمات يولد الإبداع، وعلى مرِّ التاريخ الأدبي نجد أدباء عاشوا العُزلة، وعشقوا الوحدة، وأبدعوا في رسمِ المفردة.
وفي العصر الحديث نجد الشاعر المفكر أنور العطار شاعرٌ «يميل إلى العزلة بطبعه، ويأنس للطبيعة، يصغي إليها، ويستلهمها شعره الذي يرتضيه، ويراه أجمل شعر.. إنه نحيل، محب للعزلة، نظراته حالمة، وهمساته حائرة، يعيش شبه غيبوبة، ينظر إليك وكأنه لا يراك».
فهو يرى أن في العزلة والوحدة يزدهر الفكر، ويزداد البيان سِحرًا.
يقول في رباعية (الوحدة):
عَلَّمَتني الحَياةُ أَنَّ مِن الوَحْــدَةِ
أُنْسًُا يُغْني غَنَاءَ الصِّحَابِ
في حِمَاها البَهِيِّ يَزْدَهِر الفِكْــرُ
ويَأتي بالرَّائعِ المُسْتَطَابِ
مِن نَدَاهَا سِحْرُ البَيانِ المُوَشَّى
بِفريدٍ مِنَ الَمَعَاني عُجَابِ
هيَ للعارفينَ عَالَمُ إبداعٍ
وللجاهلينَ دارُ اغْتِرَابِ
وفي آخر الأبيات يوضح أن الوحدة (عالم إبداع) للعارفين المتعلمين، فهو يشبه الوحدة والعزلة بالعالم الذي يمتلئ بالأفكار والإبداعات، وهي للجاهلين دار غُربة. فالشاعر في هذه الرباعية يرى في (الوحدة) عالم مثالي، للمفكر، والأديب، والعالم.
ويقول في قصيدة (غالية في لبنان):
أتَدرينَ أنَّكِ أحْلاميه
وأنَّكِ أعْذَبُ أنْغَامِيه
وأنَّ خَيالكِ في خَاطِري
يَرفُّ كزنبقةٍ نادية
وأنَّكِ أشْعاري الهاجسات
بِنَفْسي في العُزْلةِ القَاسية
فالشاعر في عزلته يتأمل المحبوبة، ويراها أحلامه، وأنغامه، فهي في قلبه وأنفاسه، ولو تأملنا نجد الشاعر استخدم في تأمله أكثر من حاسة (السمع، النظر، الشم)، وهذا يزيد المعنى قوة وجمالًا (وأنَّكِ أشْعاري) تشبيهه المحبوبة بأشعاره تشبيهًا بليغًا، للمبالغة في التشبيه فكأنها المتفردة بشعره.
ولعل الأزمة التي دفعت الشاعر إلى العزلة هي أزمة اجتماعية عاشها في عصره وهي أزمة (الفقر، والحرب)» نشأ شاعرنا العطار فقيرًا، وثيابه دليل فقره «كما ورد في «عبقريات شامية-عبدالغني العطري». «نشأ والحرب العالمية قائمة على قدم وساق، ومظاهر البؤس والألم والجوع في كل مكان ودمشق تعاني الجوع، والازدحام على الأفران، والناس يموتون جوعًا، والجياع ينبشون المزابل، ويأكلون قشور الفاكهة».
أما محمود درويش ففي يومياته (أثر الفراشة) يقول: «في العزلة كفاءةُ المُؤْتَمَن على نفسه.. العزلة هي انتقاء نوع الأَلم، والتدرّب على تصريف أفعال القلب بحريّة العصاميّ.. تجلس وحدك كفكرة خالية من حجة البرهان، دون أن تحدس بما يدور من حوار بين الظاهر والباطن .. العزلة مصفاة لا مرآة ترمي ما في يدك اليسرى إلى يدك اليمنى، ولا يتغيَّر شيء في حركة الانتقال من اللا فكرة إلى اللا معنى، لكن هذا العَبَثَ البريء لا يؤذي ولا يجدي: وماذا لو كنتُ وحدي؟ العزلة هي اختيار المُترَف بالممكنات، هي اختيار الحرّ، فحين تجفّ بك نفسُك، تقول: لو كنتُ غيري لانصرفتُ عن الورقة البيضاء إلى محاكاة رواية يابانية، يصعد كاتبها إلى قمة الجبل ليرى ما فعلت الكواسر والجوارح بأجداده الموتى، لعلِّه ما زال يكتب، وما زال موتاه يموتون لكن تنقصني الخبرة والقسوة الميتافيزيقية تنقصني وتقول: لو كنتُ غيري».
ويقول أيضا: «فإنني أدمنت العزلة، ربيتها وعقدت صداقة حميمة معها، العزلة هي أحد الاختبارات الكبرى لقدرة المرء على التماسك. وطرد الضجر هو أيضًا قوة روحية عالية جدًا. وأشعر أنني إذا فقدت العزلة فقدت نفسي. أنا حريص على البقاء في هذه العزلة، وهذا لا يعني أنه انقطاع عن الحياة والواقع والناس.. إنني أنظم وقتي في شكل لا يسمح لي بأن أنغمر في علاقات اجتماعية قد لا تكون كلها مفيدة».
أما العزلة لدى أبي القاسم الشابي فهي السعادة، إذ يقول:
وإن أردت قضاء العيش في دعة... شعرية لا يغشى صفوها ندم
فاترك إلى الناس دنياهم وضجتهم... وما بنوا لنظام العيش أو رسموا
واجعل حياتك دوحًا مزهرًا نضرًا ..
في عزلة الغاب ينمو ثم ينعدم
واجعل لياليك أحلامًا مغردة ..
إن الحياة وما تدوى به حلم!
ولعل الأزمة النفسيـة هي الدافع الأقوى للأدباء نحو العُزلة والكتابة.
التعليقات