محمد بن عودة المحيميد، مترجم سعودي، مهتمّ بالأعمال التاريخية والتوثيقية والاجتماعية، واعتنى بالدراسات اليهودية والصهيونية المكتوبة باللغة الإنجليزية والمنقولة إليها، يشغله هاجس سؤال النهضة والتقدّم، وغالباً ما يمكن قراءة ترجماته على أنها بذرة مقارنة إجرائية بين التاريخ الصهيوني المعاصر والواقع العربي. وصدر له في هذا المجال كتابا «الحياة اليهودية في العصر الحديث» و»العمل الصهيوني في فلسطين»، وقد أجرت «الرياض» معه هذا الحوار:

*كيف تقوّم عمل إسرائيل كوهين على تحرير كتابه: "العمل الصهيوني في فلسطين"، وهل ترى أنه ركزّ جهده في خدمة قضية إحياء اللغة العبرية؟

-إسرائيل كوهين كاتب بريطاني يهودي صهيوني، مهتم بقضايا الصهاينة في العالم أجمع، وكتابه عبارة عن مقالات متفرقة كتبها صهاينة متخصصون في الأعمال التأسيسية في فلسطين منذ وقت مبكر من القرن الميلادي الماضي، ولا يقتصر هذا الكتاب على إحياء اللغة العبرية فقط، بل هو إحياء لكل شيء على أرض فلسطين يقوي إغراء اليهود بالهجرة إليها من اقتصاد وعمل وتعليم وغيره.

*إلى أي مدى تجد أن الصهاينة كانوا مهتمين بإحياء اللغة العبرية في مرحلة إعدادهم للتحول إلى فلسطين؟

-خذ على سبيل المثال: يقول الكاتب يوسيستشكين وهو كاتب إحدى مقالات "العمل الصهيوني في فلسطين": "العالم المسيحي له تثليثه، والشعب اليهودي يعيش بثالوثه: التوراة، وأرض إسرائيل، واللغة العبرية. وإذا رغبنا أن يتمتع شعبنا بحياة سرمدية فإنه يجب علينا التمسك بجذوره بقوة".

*كيف تعامل الصهاينة مع مخاطر اندثار العبرية في بدايات القرن العشرين؟

-كان الصهاينة يدركون أن الخطر على العبرية يأتي إليها من اليهود الناطقين بها أولاً، ومن تسلل الرطانات والتحريفات إليها، ولذلك دعا إسرائيل أبراهام إلى إنشاء جامعة في القدس تكون لديها القوة والسلطة لكبح هذا الخطر، وتحديد المبادئ التي تحفظ نقاء العبرية وفرض قواعد منهج موحد لتحدث العبرية وكتابتها. ويؤكد يعقوب ثون أن لغة التعليم في المدارس اليهودية في فلسطين يجب أن تكون اللغة العبرية فقط. ومن أجل التطلعات اليهودية في فلسطين آنذاك كانت هذه المُسَلَّمة بالطبع شرطاً لا غنى عنه لتجديد قوميتهم.

ويرى ثون أن العبرية وحدها القادرة على التغلب على تشويش اللغات الذي يعانيه اليهود القادمون من شتى الأقطار إلى فلسطين، وأن العبرية هي القادرة على طرد اللهجات الفاسدة الكثيرة التي ليس في إمكانها إيجاد تنمية ثقافية، ودمج أبناء بلدان مختلفة في شعب واحد.

*هذه مسألة محيّرة فعلاً، كيف يمكن للطفل أن ينشأ في بيئة جديدة ومتعددة اللغات، وكيف كانت خططهم لتعليم الأطفال إذن؟

-يرتبط هذا الأمر بمسألة تدريس اللغات بشكل وثيق، وقد كان الصهاينة آنذاك يدركون أن تعدد اللغات يعد أحد الشرور الرئيسة للمدارس الفلسطينية في الطفولة الغضة، ولكنهم يتيحون لأبنائهم تعلم اللغات بعد المراحل الأولى، وبعد أن يشتد عود الطالب ويتقن العبرية يصبح من واجب المدرسة الثانوية في النهاية تدريسه لغات عدة.

*في تلك البيئة الطارئة في المحيط العربي، على أرض غريبة، كانت الأسرة تضم نساء وفتيات قادمات من روسيا وأوربا، والمجتمع الصهيوني مجتمع قارئ، فكيف أمكنهن القراءة بالعبرية؟

-ربما تتفاجأ إذا ذكرت لك أن إحدى الكاتبات الصهيونيات، وهي سارة ثون، تدعو الفتيات اليهوديات في فلسطين قبل قرن من الزمان إلى أن يتعلمن ويعملن شيئاً نافعاً. وكانت تقول بالحرف: إنهن لن يستفدن من أدب اللغة الإنجليزية وأدب اللغة الفرنسية في حياتهن إذا كن سيتزوجن صنّاع أحذية فقراء أو ممن يقومون بنقل الماء. هناك شيء متنافر، وإن لم يكن مأساويًّا فهو مضحك في هذه الصورة لأناس فقراء يعاني أطفالهم الجوع والذبول، وهم مصابون بالتراخوما، ويتلعثمون بلغتين أو ثلاث لغات. وكانت هذه الكاتبة تسخر من أولئك الفتيات اللائي أمضين مدة ست إلى عشر سنوات في المدرسة وانتهين لا يُجِدْنَ شيئًا، وليس بمقدورهن كسب شيء، وليس لديهن كثير مما تعلمنه حول كيفية رعاية أسرهن بصورة مناسبة، وخلال كل هذه السنين كن يتلقين قشور الثقافة، ولكنهن لم يتلقين أسسًا متينة من أجل حياتهن. وتقترح إنشاء مؤسسة تعلم الفتيات العمل والصناعات، وهي ترى أن الإبرة والخيط أهم كثيراً للفتاة اليهودية التي هاجر أهلها إلى فلسطين آنذاك من تعلّم ثلاث لغات.

-هل ترى إذن أن الأرض وحدها لم تكن كافية لتشكيل الهوية الصهيونية، وأن ذلك لا بد له من روافد أخرى؟

-دون شك، حتى لو كانت الهوية موجودة فإن النهضة يستحيل أن تقوم على مقوّم واحد فحسب، بل لا بد من عوامل متعددة، ويحضرني على سبيل المثال في هذا الشأن أن دافيد يلين تحدث عن مقوّمات الأمة، أي أمة. وهو يؤد أنها ثلاث: أولًا: خصائص القوم، وعاداتهم، وتصوراتهم تجاه العالم، وفلسفتهم في الخير والشر، والجمال القبح، مع نمط الحياة الذي ينتج عن كل هذا، وتشمل هذه الخصائص قوانينهم وتعاليمهم أيضاً. وثانياً: الدثار الذي يدثر به القوم روحهم وتعبيرهم عن أنفسهم، وهو: لغتهم الواحدة. وثالثاً: المكان الذي يضمهم على نحو يتيح لهم التجمع والتفاعل والتكاتف والتأثير والإنتاج الفكري، وهو: أرضهم. فالعادات والقيم والقوانين أولاً، واللغة ثانياً، والأرض ثالثاً. وعلى العرب والمسلمين أن يدركوا هذا الأمر ويعوا الدرس جيداً.