كان الشعراء القدامى يُسَمُّون الخيال الشاعري الذي يعتادهم: الشيطان!

حتى قال شاعرهم مفتخراً:

إني وكُلُّ شاعر من البشرْ

شيطانُهُ أنثى وشيطاني ذكر!

بل إن هذا المعنى قديم قبل العرب في جاهليتهم، فصاحب الإلياذة الشاعر الاغريقي الذي توفي قبل الميلاد يقول (الشعر شراب الشيطان!).. وسبب هذا في اعتقادي حيرة الشعراء مع الشعر، فإنهم قد يطلبونه فلا يجدونه، ويهبط عليهم بدون مقدمات في لحظة سكون، والفرزدق يقول: «إنه ليأتي عليَّ وقتٌ قلعُ ضرس فيه أهون عليَّ من قول بيت من الشعر» على كثرة ما قال من روائع القصائد..

إنه الإلهام الذي يتدفق على الشاعر من مخزون خياله ومشاعره أو وحي الشعر كما يقال، ذلك ما سماه العرب (شياطين الشعر) وسماه الأوروبيون (عرائس الشعر)، وقال عنه أفلاطون (يدين أحسن الشعراء جميعاً بأشعارهم الجميلة لا للفن بل للحماسة ولنوع من الغيبوبة فهم يشبهون الراقصين الذين لا يبدعون إلا إذا خرجوا من شعورهم، فالشاعر كائن خفيف له أجنحة!».

قلت: له أجنحة؟ هذا صحيح، إنها أجنحة الخيال، أما أن الشعراء يدينون بإبداعهم لما يشبه الغيبوبة فهذا ليس بصحيح، فالشعر ليس حفلة زار، ولكنه موهبة وشعور مرهف وموقف يهز هذا الشعور ليطير بجناح الخيال، دون غيبوبة، فللعقل نفسه دور، ولكنه يسير، عبَّر عنه «ل. ب. فارج» فقال: «إن العقل في مجال الشعر يقوم بشراء الحاجيات وحمل البضائع ويجهز قاعة الاستحمام.. فهو خادم صغير يقف لخدمة سيدة جميلة».

قلت: وهذه السيدة الجميلة هي المشاعر، وإذا كان العقل خادماً صغيراً في بلاطها فإن الخيال هو بساط الريح الذي يحلِّق بها..

ولا نقول: لا يوجد شاعر بلا خيال، بل نقول لا يوجد إنسان بلا خيال حلَّق أو أسفّ، فالخيال عينه داخلية في كل إنسان..

٭٭٭

والخيال المحلق كثير في الشعر العربي والشعبي، ولكننا نذكر شواهد مما حضر.. تقول فدوى طوقان:

وتمضي وأمضي مع العابرين

وما بيننا غير نجوى النظرْ

وطيفُ ابتسام على شفتيك

ووهج هيام بعمقي استعر

وقد هبط الليل حُلو الغموض

خلوب الرؤى عبقري الصور

وما جت مع الريح خضر الكروم

مشعشعة بضياء القمر

وفاض الوجود شعوراً وشعراً

وذاب من الوجد حتى الحجر!

فهذا خيال عمَّ الوجود فهو ليس بساط الريح بل سفينة نوح..

ويقول خالد الفيصل بعنوان: «أذكريني»:

كل ما عانقْ نظر عينيك قمرْ

أو لثم خدِّك شعاع من غروبْ

أو نسيم هفهف بشعرك سَحَرْ

أو تغنَّى بالهوى صوت طروبْ

أو تبلّلْ كفّك بقطر المطر

أو تبسّم بالسما نجم جنوب

أو ضحك ورد على عَوْد خضر

أو نقل لك نفحة خزامى هَبُوبْ

أو تهادى موج في شط البحر

ينشد الراحة بعد يوم تعُوبْ

أو خيال من قديم أمْسك خصرْ

يستفز القلب بالصوت العتوبْ

أو تجاسر فكر في ليلة حذر

يسترد الحلم من درب الهروب

أذكريني .. واستعيديني شعر

صادق المعنى.. ولو وقْتَه كذوبْ

إن الخيال هنا يحمل مطر المشاعر إلى الحبيب.. وهو كالمطر نفسه يصيبه أينما ذهب.. ولو توارى فإنه يسمع وقع المطر ويشم رائحة المطر.. المطر الهتان لا يخفى.. وخيال الشاعر يريد أن يجعل ذكراه في وجدان الحبيب محاطة بكل ما يرى وبكل ما يسري فيه من خاطر

٭٭٭

وهناك شعر فيه خيال يعلوه خيال، كسحاب فوقه سحاب، مثل قول أنور سلمان على لسان محبوبته:

لي هذا الشاعر أفديه

وأموت بدفء قوافيه

بسواد عيوني! .. ما خفقت

شفتاي لغير أغانيه

أهواه أعيش بحجرته

طيفاً، بالحب أناجيه

أُدنيه إليَّ، أعاتبه

وبرمش العين أداريه

وأحبُّ جميع قصائده

وأحب جميع معانيه

إن جاء لوعد أرقبه

بزهو الوردة بالتيه

وأحارُ بكيف أقابله

وأحارُ بكيف ألاقيه

أبكي أبكي إن غادرني

وبشوق الشوق أناديه

بجموع العطر أواكبه

ومساء النجمة أهديه

إن غاب أغيب عن الدنيا

ويغيب الكون وما فيه!

فالشاعر «تخيل» مشاعر حبيبته نحوه أولاً، ثم صاغ هذه المشاعر بخيال محلق، فالمشاعر كالسحاب، والخيال هو ريح الصِّبا تسوقها، وهو الرعد يسوطها، وهو البرق يوقدها، حتى تمطرها مشاعرها، والعرب تقول: «إذا كان السحاب من جهة القبلة، ثم ألقحته الجنوب، وإذ رأته الشمال كان مطره أجود المطر» والصَّبا هي الرياح الطيبة تأتي من الشرق تجاه القبلة كأنما تسوق السحاب بمحبة، والشاعر إذا كان أصيل الموهبة وراكم حُبُّه سحابا من المشاعر فإن الخيال هو الذي يجعلها تُمطر، ويجعلنا نسعد بذلك المطر.. نحتاج الشعر كما تحتاج الأرض المطر.

٭٭٭

ومن المؤلم أن العصر الحديث يقص أجنحة الخيال ويمنع المطر من النزول، فالتلفزيون يصدمك بالواقع ولا يجعل لخيالك أي مجال عكس الشعر والقصة، حين كنا صغاراً كنا نحرق فحمة الليل بقراءة قصة يتقد معها جمرُ الخيال فينا: حين نقرأ أوصاف امرأة جميلة يسافر خيالنا في تصورها إلى أبعد مدى، ويا للأسف كم قصة قرأتها وتخيلت بطلتها الجميلة حتى عشقتها ثم صُعقت حين رأيتها ممثلة في فيلم سينمائي وأمامي تلك المرأة أراها .. لا .. إنها لست هي! .. إن الخيال شيء آخر.. ممطر دائم المطر.. مسافر دائب السفر.. أما الواقع فجامد كالصخر الأصم.. الخيال ضروري لتذوق الآداب والفنون، وللنجاح في الحياة أيضاً، فالذين لا يحلمون بالقصور في الهواء لا يملكونها على الأرض.

٭٭٭

و«نورة الهوشان» شاعرة شعبية مبدعة، رغم أنني لم أجد لها غير قصيدة واحدة، ولكن حين تذوق من الطبق الكبير ملعقة تعرف أطيب هو أم لا؟..

وقصيدتها تدل على شاعرية أصيلة.. قالتها في زوجها الذي تحبه بجنون ثم طلقها فظلت تحبه وتحمل له الوفاء والإخلاص، وخطبت مراراً فرفضت لأن قلبها معلّق به، فظلت تعيش على ذكراه وتروي شجرة حبها بدموعها لتظل خضراء.. تقول:

يا عين هلّي صافي الدمع هليِّه

وإلى انتهى صافيه هاتي سريبه

يا عين شوفي زرع خلك وراعيهْ

هذي معاويله وهذي قليبهْ

يمرّني بالدرب ما أقدر أحاكيه

مصيبة يا ناس والله مصيبهْ!

اللي يبينا عيّت النفس تبغيه

واللي نبي عيا البَخَتْ لا يجيه

والبيت الأخير ذهب مثلاً.. والشعر كله من صميم القلب، فهي تمر بزرع زوجها السابق الذي عاشت معه أحلى أيام حياتها، تمر بالزرع القريب من نفس القرية الصغيرة، وترى (معاويله) أي عدّته التي يعمل بها .. لا شك أنها كانت تعمل معه في هذا الزرع.. وترى القليب (البئر) التي كانا يشربان منها معاً ويسقيان الزرع .. هذه الأشياء الملموسة تشعل فيها ذكريات الأيام الخوالي حين كانت هنا .. معه .. (هذي معاويله وهذي قليبه) تقوله بألفة عن جميل معرفة .. وتستحضر أيامها بخيالها ونستحضرها معها .. ليس هذا فقط.. الحبيب يمر بها ما تقدر تحاكيه .. كان زوجها .. كان .. الآن هو رجل غريب:

يمر بالدرب ما أقدر أحاكيه

مصيبة يا ناس والله مصيبه!

أنا أشهد.. هذا أمر في الهوى: قرب

الحبيب وما إليه وصول..