أذكر عندما كنت في السنة النهائية في كلية العمارة والتخطيط في جامعة الملك سعود كان من ضمن المقررات الدراسية لطلبة العمارة مادة اسمها «ممارسة المهنة» يعطيها لنا أستاذنا الفاضل الدكتور عادل إسماعيل أستاذ العمارة والتخطيط، وكان سعادته دائماً يذكر لنا بأن «مهنة العمارة مهنة سامية، نبيلة وراقية.. لكنها لا تؤكل عيشاً». وبعد مرور سنين على ذلك وبعد الكثير من المحاولات والطرق لكسر كلام سعادة الدكتور وإثبات أن مهنة العمارة تدر ذهباً بعد كل ذلك اتفق ومعي العديد من زملاء المهنة بأن كلام أستاذنا الدكتور عادل إسماعيل لم يأت من فراغ وإنه كان يقول الحقيقة ونحن في بداية الطريق آنذاك .. فشكراً لك استاذي الفاضل. فمهنة العمارة في العالم أجمع وفي بلادنا خاصة مهنة يحترف سرقتها الكثير سواء في المجال المهني أو المجال التقني أو المجال التنظيمي والتشريفي في ظل غياب المحكمة والقاضي وامتناع أي محام للترافع عن العمارة ليقينه بأن القضية المترافع عنها خاسرة، فالشق أكبر من الرقعة.

الكل في بلادنا معماريون ومخططون بدرجة بروفسور أو أستاذ بالفطرة حتى لو كانت حصيلته العلمية هي الابتدائية الليلية عندما يكون الكلام في مجال العمارة والتخطيط، أرى هذه الظاهرة في كل اجتماع وفي كل مناسبة وآخر ما رأيته في اجتماع المجلس البلدي لمنطقة الرياض وكان الله في عون سمو أمين منطقة الرياض، فمهنة العمارة الكل أخذ منها جزءاً، فعلى المستوى المهني وقبل سنوات مضت وبالتحديد في عام 1401ه قامت البلديات آنذاك باعتماد وتطبيق نظام يعتبر أكبر ضربة توجّه للعمارة والعمران في بلادنا، وذلك بأن سمحت لكل من يحمل لقب مهندس ولكل التخصصات الهندسية المختلفة بالتصميم المعماري واعتماد المخططات التنفيذية لجميع الوحدات السكنية عن طريق منح كل مهندس مهما كان تخصصه بطاقة مؤهلة لاعتماد عدد معين من المخططات التصميمية والتنفيذية في الشهر الواحد ولذلك فتحت الباب على مصراعيه لمزيد من مظاهر التشويه المعماري والعمراني الذي مازالت مدننا تعاني من آثاره حتى الآن. ثم ألغي هذا النظام بعد فترة عندما أصبحت تواقيع الاعتماد تُباع للمساجين والرسامين الذين يقومون بعمل الرسومات التنفيذية للمشروع ووضع ختم توقيع المهندس المشترى منه التوقيع لاعتماده والكل يأخذ نصيبه من هذه الغنيمة. هذه حال العمارة في فترة كانت من أشد الفترات حاجة إلى اللمسة المعمارية، فلقد كانت بلادنا تعيش في مرحلة نمو عمراني كبير فكان الضرر أقوى وأشمل نتيجة قرار لم يدرس بما فيه الكفاية ولم تؤخذ أبعاده المستقبلية بالحسبان.

ثم جاءت بعد ذلك مرحلة نماذج الوحدات السكنية التي تباع لكل من أراد بناء مسكن والتي تريح إدارات الرخص في البلديات من تدقيق المخططات وتجبر المواطن بطريقة غير مباشرة على تنفيذ مسكن يفرض على الساكن التأقلم مع متطلباته بدلاً من أن يملئ الساكن متطلباته على تصميم مسكنه وبهذه المرحلة قلصت البلديات دور المعماري في التصميم فهي لم تفرض على المواطن تطبيق تلك النماذج ولكنها سهلت واختصرت الطريق للحصول على المخطط ورخصة البناء بأقل جهد وتكلفة ولكن كان ذلك على حساب الجمال والإبداع المعماري الذي تخلو منه النماذج الجاهزة للتنفيذ وبهذه المرحلة تم اقتناص جزء آخر من عمل المعماريين والحد من تطوير العمارة والعمران.

الوضع الحالي اختلطت فيه جميع الأوراق وتعدت الأمور تخصص العمارة وأصبح وضع المكاتب الهندسية والاستشارية عموماً يحمل من السلبيات أكثر من الإيجابيات، ففي المملكة أكثر من ألفين وخمسمائة مكتب هندسي واستشاري حسب السجلات الخاصة بالمكاتب الهندسية والاستشارية تختلط فيه جميع التخصصات وهو عدد هائل وكبير ولكن بالتدقيق نجد أن عدد المكاتب التي تعمل فعلاً في مجالها الحقيقي لا يتجاوز اثنين ونصف بالمائة من إجمالي عدد المكاتب (2,5٪) أي في حدود الستين مكتب والبقية الباقية بعضهم يعيش على بيع نصيبهم الشهري من التواقيع المعتمدة وصاحب المكتب يعمل في مجال قد يكون مختلفاً كلياً عن مجال الاستشارات الهندسية والبعض الآخر نراه قد سلم المكتب إلى أحد الاخوة الوافدين واكتفى بمبلغ شهري بسيط ثمناً للاسم والتوقيع.

القطاع الحكومي والقطاع الخاص ساهما إلى حد كبير في هذا الواقع الهندسي، فمعظم القطاعات الحكومية والخاصة دائماً توجّه خطابات الدعوة للمنافسة أو المسابقة لأي مشروع لديها لعدد معين ومعروف عند كل قطاع وبشكل مستمر لنفس المكاتب نتيجة لقناعة المسؤولين في تلك القطاعات بأن تلك المكاتب الاستشارية المختارة هي الأفضل ومكتب يعرفونه أحسن من مكتب لا يعرفونه ولم يسبق لهم التعامل معه. هذا هو المفهوم الذي يتم اختيار ودعوة المكاتب الاستشارية بموجبه. ولقد أدى ذلك إلى حصر الأعمال الاستشارية للمشاريع لعدد معين من المكاتب وبقي العدد الكبير منهم بدون عمل مما يقوده في النهاية إلى استحالة الاستمرارية في هذا المجال والبحث عن مجالات أخرى أكثر ربحاً.

الموضوع بكامل جوانبه يحتاج إلى إعادة ترتيب وتنظيم، وقد يكون العبء الكبير والأول يقع على كاهل الهيئة السعودية للمهندسين التي تحتاج إلى عمل دؤوب ومستمر لكن وبالرغم من مرور شهور طويلة مضت حتى الآن على تشكيل مجلس إدارة الهيئة فلا نرى في الأفق مؤشرات إيجابية تفيد بأن هناك أشياء من شأنها تطوير الواقع الهندسي لدينا، فالأجندة مليئة بهموم المكاتب الهندسية الاستشارية كملكية المكتب والتخصص الفني للمكتب وتصنيف هذا العدد الكبير من المكاتب وواقع المنافسات والمسابقات للقطاع العام والخاص وشخصية المكتب الهندسية والعاملين ومعايير تصنيف وتقييم المكاتب كل ذلك يحتاج إلى جهد كبير لترتيبه.