مما لا شك فيه أننا نعيش الآن حقبة جديدة تشكلت بظهور الثورة الصناعية الرابعة التي يواجه فيها صناع القرار والمستثمرون في جميع أنحاء العالم تحديات عدة تتعلق في كيفية التعامل مع هذه الثورة، وما حملته في طياتها من تغيير شامل في مختلف القطاعات الاقتصادية، والتي تقتضي التكيف معها حتى يتم الوصول إلى تحقيق أهداف المنشآت والهيئات والشركات وحتى الأفراد. وسيكون الأساس والفارق في التكيف بين الشركات والمؤسسات على مستوى العالم هو امتلاك رؤية وخطط متبصرة عن الثورة الصناعية الرابعة التي يراهن الكثيرون على أنَّها سوف تعيد تشكيل معظم جوانب الحياة سواء المتعلقة بطريقة معيشة الفرد أو بيئة عمله، كما هي الحال أيضاً فيما يخص آلية وضع السياسات الحكومية العامة المتعلقة بالتعليم والرعاية الصحية وغيرها. لذا قد يكون من المفيد فهم تأثير الثورة الصناعية الرابعة على المجتمع والأفراد فيما يتعلق بالتواصل والعمل والحياة بشكل عام، وكيف أنها أعادت تشكيل الحوكمة والأنظمة وطريقة وسرعة اتخاذ القرار في الدول المتقدمة عمومًا والنامية خصوصًا في مجال الرعاية الصحية والتعليم والقطاع المالي.
تمتلك الثورة الصناعية الرابعة القدرة على التأثير بشكل إيجابي عالميًا على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، إلا أنه قد يواجهها العديد من التحديات وحالات عدم اليقين في المستقبل المنظور والتي تستلزم أن تكون الحكومات في الدول النامية خصوصًا والتي تفتقر إلى الموارد البشرية والمادية الكافية لمواجهة هذه التحديات على معرفة كافية بمستوى التحدي خصوصًا فيما يتعلق بالقوى العاملة والمهارات المطلوبة لتبني هذه الثورة.
ومن المهم أيضًا أن توازن الحكومات بين الفرص والتحديات التي تفرضها الثورة الصناعية الرابعة حسب إمكانات هذه الحكومات حيث إن التأخر في التكيف معها سيولد فجوة كبيرة على مستوى الاقتصاد بشكل عام وسوق العمل بشكل خاص.
قد يكون من بين أكبر التحديات التي تواجهها الحكومات أيضًا مواكبة التكنولوجيات الحديثة أو الناشئة التي تقوم شركات القطاع الخاص بإنتاجها أو تطبيقها بشكلٍ متزايد ومستمر، حيث لا يوجد آلية واضحة تنظم عمل العديد من هذه المنتجات، مثل: تكنولوجيات إنترنت الأشياء، والذكاء الاصطناعي، وأجهزة الاستشعار المتقدمة، والبيانات الضخمة والتكنولوجيا الحيوية، والحوسبة الكمية والتحول الرقمي. ويكتنف الغموض الجوانب الجغرافية التي تخضع لها هذه التكنولوجيات؛ مما يقلص دور الحكومات في رسم السياسات العامة التي تضع الحوكمة المناسبة لاستخدام هذه التكنولوجيات.
وعلى ذلك أصبح من الضروري إيجاد حوكمة جديدة ترقى إلى مستوى تشكيل الثورة الصناعية الرابعة لضمان الاستفادة المثلى من التكنولوجيات الحديثة على نطاق واسع بحيث ترتكز على التعاون بين القطاعين العام والخاص عند وضع السياسات التي ترسم فعالية هذه التكنولوجيات بما يضمن تكيف ومجارات الحكومات لها دون كبح الفكر الإبداعي والابتكاري لدى القطاع الخاص وتحفيز المسؤولين التنفيذيين في شركات التكنولوجيا العملاقة على وضع سياسات استباقية عند تطبيق الصناعات المنبثقة عن الثورة الصناعية الرابعة، بالشكل الذي يضمن عدم استغلالها بشكل لا أخلاقي. أما على مستوى السياسات العامة، فسيكون للتحول الرقمي والذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات الضخمة وغيرها من أدوات الثورة الصناعية الرابعة تأثيرًا واسعًا على سوق العمل، حيث من المتوقع أن تتقلص أو تختفي العديد من الوظائف إلا أنه في نفس الوقت سيصاحب ذلك استحداث العديد من الوظائف التي تتطلب مهارات جديدة تتوافق مع تسونامي التكنولوجيا. وستؤثر الثورة الصناعية أيضًا بشكل كبير على السياسات المالية والنقدية إذا أخذنا بعين الاعتبار أن العديد من الوظائف سوف تقوم بأدائها الروبوتات أو ستدار بشكل إلكتروني، مما يصَّعب من طرق احتساب الضريبة أو الرقابة على هذه الأعمال، والذي بدوره سوف يؤثر على السياسة المالية. ومن نفس المنطلق، قد يكون للعملات الافتراضية والتكنولوجيا المالية أو «فينتك»، التي تمثل تحديًا لشركات خدمة قطاع المدفوعات التقليدية، تأثيرًا واسعًا على السياسة النقدية، وبالتالي من الصعب جدًا التنبؤ بتأثير الثورة الصناعية الرابعة على مستوى السياسات العامة إذا ما سلمنا أنَّ هذه الثورة سوف يكون لها أيضًا تأثير على رفع مستوى الإنتاجية والإيرادات وتخفيض تكاليف الإنتاج، مما يضيف مستوى آخر من التعقيد. لذا، قد يُستحسن للدول النامية الاستعداد لهذه الثورة والاستفادة منها في رسم سياساتها العامة في ظل الإمكانات المتاحة وخصوصًا على مستوى التعليم والصحة وعدم الانشغال في تقييم الآثار الجانبية المصاحبة لتبني مثل هذه السياسات.
أخيرًا، تجدر الإشارة إلى أنَّ: الثورة الصناعية الرابعة دخلت مرحلة التطبيق في المنطقة خلال الفترة الأخيرة وقد يُستفاد منها في تحقيق رؤية المملكة 2030. وهذا ما أشار إليه وزير الاتصالات وتقنية المعلومات إلى أنَّ الثورة الصناعية الرابعة التي تعيشها المنطقة ستكون ممكنًا أساسيًّا في تحقيق مستهدفات رؤية المملكة 2030. وإذا أخذنا بعين الاعتبار أنَّ المملكة تمر بمرحلة تغيير وإصلاح شامل على جميع المستويات، فإنَّ ذلك يسهل تبني الثورة الصناعية الرابعة خصوصًا فيما يتعلق بالتعليم، حيث سيساهم ذلك بشكلٍ مباشر في تسهيل الوصول إلى العديد من مستهدفات رؤية 2030. وقد يكون من المفيد أنَّ تقوم بعض الجامعات الرائدة في المملكة بإنشاء مختبرات ومعامل تجريبية مختصة في جميع مسارات الثورة الصناعية، مثل: الذكاء الاصطناعي أو البيانات الضخمة والتحول الرقمي، وذلك بمشاركة فعّالة من المهتمين في القطاع الخاص في هذه المسارات، نظرًا لأنَّ الشراكة الاستراتيجية مع بعض الجهات الأكاديمية التي لها باع كبير في مسارات الثورة الصناعية الرابعة، مثل: معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا قد يكون من بين أفضل الخيارات لتبني هذه الثورة وهذا ما قامت به بالفعل بعض الدول في المنطقة.
التعليقات