الخطاب الديني مصطلح شمولي للفتاوى والخطب والمحاضرات والوعظ والإرشاد، ومجمل الفعاليات الاتصالية التي تنقل المحتوى الديني إلى الجمهور بقصد التأثير فيهم، وحملهم على استقامة الاعتقاد والسلوك، من خلال مناهج وأساليب ووسائل ومواقف متعددة، وله جانبان مقدس مرتبط بنصوص الوحي، وبشري متمثل في الأفكار والتوجهات والآراء والتفسيرات والمدركات الذاتية التي يتم توظيفها في سياقات مذهبية وأخرى حركية، وفي كلا الجانبين تداخلات على مستوى السياق في المقام والمقال، واستدعاءات في التفسير والاجتهاد بحسب الزمان والمكان.

اليوم لا يوجد من يختلف على فكرة مراجعة محتوى الخطاب الديني في هذه المرحلة، إلاّ من يريد أن ينتصر لذاته وتبعيته، أو منهجيته التقليدية في الفهم والاجتهاد؛ لذا من المهم أن نؤمن أن المراجعة ليست تنازلاً عن ثوابت مستقرة لا يصح لعاقل أن يتجاوزها فضلاً أن يكون مسلماً، وليست تغريباً في تقويض القيم والمبادئ والمقومات، وليست أيضاً انحرافاً بالمنهجية عن أصل المنهج، ولكن مراجعة محتوى الخطاب تمثّل فهماً للتحولات الفكرية التي استجدت في حياة البشرية، والأنساق الثقافية والدينية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي أحدثتها العولمة تبعاً لذلك، وتقديم نموذج إنساني متعدد ومنفتح على الآخر، ومتحرر من قيود التبعية للاجتهادات التي كانت في زمان ومكان ما مناسبة ولكنها اليوم ليست كذلك، وينطلق في ذلك من محورية العقل في التشريع، والتمييز بين الثابت والمتغير، وآنية الحل بين الموروث والمستجد.

مراجعة الخطاب الديني تكون على مسارات ثلاثة: اللغة والأفكار والموضوع؛ فاللغة تعني الانتقال من جانبها الثابت إلى جانبها المتحرك، وبعبارة أخرى التحول من التفسير الحرفي للنصوص إلى فحوى الخطاب الذي لا يكفيه اللفظ بل المعنى أيضاً الذي تتشكّل معه (الأفكار)؛ لتحديد المنفعة والضرر وفهم المقاصد والمصالح والقواعد التي تنطلق منها، وتعبّر عنها في (الموضوع)؛ ليكتمل القياس الصحيح في الأصل والفرع والعلة والحكم.

هذا الفهم العميق لمراجعة الخطاب الديني لغة وفكراً وموضوعاً يتيح لنا التركيز على مقاصد الشريعة الإسلامية التي هي الأساس، وضرورتها الخمس (الدين، النفس، العقل، العرض، المال)، والنظر إلى الحياة على أنها عبادة وسلوك، ولا يستقيم أحدهما إلاّ بالآخر، وأيضاً حقوق وواجبات لا ينفصلان عن بعضمها، كذلك تتيح عملية المراجعة للخطاب الديني الانفتاح على العالم وليس الانغلاق عليه، أو التخلّف عنه، أو التخوف منه، وهذا الانفتاح ثمرة للعقل، وقيمة للسلوك، وفهم للمستجدات والتعامل معها بشكل طبيعي، وسوي، بلا تأزيم، أو صراع، أو تشكيك.