إن من أعـظم نعم الله عليـنا هنا في المملكة العربية السعودية هذا الوطن الذي نتفيأ ظلاله، ونعيش أجواءه، ونتنفس هواءه، نجد فيه معـنى السكينة، وحقيقة الطمأنينة، فيه تتصل أمجاد الأجداد بالأحـفاد، وتتلاحم قلوب الجماعات والأفراد.

لقد أكرمنا الله عز وجل بوطنٍ ضاربةٍ جذور مجده في أرض التأريخ، وباسقةٍ غراس تسامحه وسلمه في سماء العز، أرض الحرمين الشريفين، ومهبط الوحي، ومنبع الرسالة المحمدية، قد أرخى الله فيه رداء الأمن، وقوى بنيان وحدته، وفتح عليـنا أبواب رزقه، فله تعالى الحمد والمنة، إن الوطن إذا اجتمعت فيه هذه النعم فقد حاز أس الرخاء، ونال قوام الحضارة، ألم تروا أن إبراهيم الخليل - عليه السلام - يوم أن دعا ربه ليهـيئ بمكة أسباب السعادة قال: ( رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ)، فوطنٌ فيه قوتٌ ورزقٌ، وتوحيدٌ ووحدةٌ، وأمـنٌ وإيمانٌ، لهو نعمةٌ عظيمةٌ من الله تسـتوجب الشكر، ومنةٌ تسـتدعي الحمد، فلك الحمد ربنا على نعمك العظيمة وآلائك الجسيمة.

إن وطننا المبارك هذا المملكة العربية السعودية ليسـتحق منا التمسـك به، والاعتزاز بالانتماء إليه، وصون مقوماته وإنجازاته، والعمل الدؤوب لأجـل رفعته وعزته؛ ولتعـلموا أن محبة الوطن والحفاظ على أمانته ليست شعاراتٍ مجردةً، ولا عباراتٍ جوفاء، بل لا بد أن تتغلغل في القلب إيماناً، وتسـكن في النفس اقتناعاً، وتترجمها الجوارح والطاقات سلوكاً وعملاً، وإننا لنجد في سيرة رسول الله وصحـبه أسمى الأمـثلة لحب الوطن المتعمـق في القلب، ولترجمته في الواقع عملاً وبناءً، فالمصـطفى يوم أن أسـكنه الله المدينة ورضيها له وطناً، سكن قلبه حبها، وعظمت في نفسه مكانتها، روى أنس بن مالكٍ -رضي الله عنه- قال: (كان رسول الله إذا قدم من سفرٍ فأبصر درجات المدينة أوضع ناقته - أي أسرع بها - وإن كانت دابةً حركها) أخرجه البخاري، بل إن ذلك الحب تفاعل في نفسه فأحب المدينة بكل ما فيها، حتى قال عن أحدٍ وهو جبلٌ أصم: (هذا جبلٌ يحبنا ونحبه) متفق عليه، ولقد ترجم ذلك الحب واقعاً معايشاً، فأقام في المدينة أساس العدل وبنى فيها دولة الإسلام، وكان من خلفه صحابته الكرام يترجمون حبهم لهذا الوطن سعياً وعملاً، ودفاعاً وحفظاً، وتكافلاً وتآلفاً.

إن محبة الوطن تقتضي عدم الإتيان بما من شأنه المساس بوحدته ولحمته، فالتفرقة والتشرذم - لأي اعتبارٍ كانت - وبالٌ ومهلكةٌ، لأجل ذلك حذر الله عز وجل منها كثيراً في كتابه، يقول سبحانه: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)، فكم أهـلكت من قبلنا أممٌ بسبب تنازعها، وامحت حضاراتٌ بسبب تفرق أهـلها.

إننا ونحن نحتفل بالذكرى الثامنة والثمانين لتوحيد المملكة العربية السعودية نتذكر أن أول نواةٍ لبناء الوطن وقيام الدولة وتأسيس الحضارة هي الوحدة والتكافل والتآلف بين أفراد المجـتمع، ولذلك بنى المؤسس الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه - هذا الوطن على هذا المبدأ الإسلامي الأصيل.