هكذا هم الكبار، في تقاربهم، في تباعدهم، في تنافسهم، في غضبهم في رضاهم، في إبداعهم، في توقفهم عند الزوايا، في سعادتهم، في مللهم، في حياتهم وفي موتهم، يظلون موجودين بكل صفاتهم وإنسانيتهم ومحبتهم وحرصهم وخوفهم على ألا تنقطع حبال الثنائية الحريرية، التي تربطهم بوجودهم، وبأعين وقلوب ومشاعر كل من يعرفهم، وبتاريخ الفن، فلا يكاد يذكر أحدهما إلا وتبرز صورة الآخر، وتتحد في سبل الإبداع مهما كثر حولهما من المريدين والأقران والحساد، والفاسدين الراغبين في حفر برزخ البعد والنوى بينهما.
ثنائيات عرفها التاريخ الفني، دام بعضها ومات الآخر، فكانت خير حافز للفن، وخير من يقدم الوقود لبقائه واستمراره، وخير من يدفئ وجدان طرف منهما بمجرد معرفته بوجود الآخر.
في مصر ظل التنافس بكل أشكاله بين محمد عبدالوهاب، وأم كلثوم ردحاً طويلاً من الزمان، ولكنهما ورغم كل ذلك كانا ملتصقين في مخيلة الجماهير المنقسمة، فيعتقد الوعي أن كل أغنية يبدعها أحدهما لا بد أنه يخاطب بها الآخر، ليبدع في تصدر الصورة، قبل أن يعود الآخر ويزيحه ولو من على البعد، لفترة قصيرة أخرى، استعداداً لعودته مجدداً، ممتلئاً بالتحدي، ومتشبثاً بيقين ملايين الجماهير، التي كان يتمنى كل منهما لو يحصيهما فرداً فرداً، ليثبت للآخر بأن محبته وقيمته الجماهيرية كبيرة جداً، وأن الآخر لن يبلغ طوله، إلا بما يشبه كلمة الصدق يقولها بينه وبين نفسه في لحظة صفاء.
وحتى بعد أن أصبح عبدالوهاب يصوغ ألحانه لأم كلثوم، ظل الفريقان المتنافسان يقارنان بينهما، فأيهما أحيا موات الأغنية، وأيهما الفذ الأوحد؟ وكأن اجتماعهما ليس إلا حرباً!.
وعلى الجانب الآخر من شق البحر الأحمر وُجد المبدع طلال مداح، والذي وجد نفسه وهو في أوج مجده وجهاً لوجه أمام البلدوزر محمد عبده، ذلك القادم من بعيد، وهو لا ينوي إراحة طلال في قمة كان يتمتع بها، فأصبح الأمر بينهما ثنائية مد وجزر، تحكمها الملايين، ومنافسة في السر والعلن، وآراء حول كل منهما تتنافس على ألسن مجموعات من المبدعين، ومن المستفيدين، ومن الإعلاميين، ومن الجماهير المتيمة، لتشتعل مباريات بطولات كان طلال ومحمد يحضران بعضها، ويقام الكثير منها في أودية بعيدة لا تنضب سحائبها وسيولها وزبدها.
المنافسة كانت شرسة، فكل لحن لهذا الشاب الفنان محمد، كانت تسمع أول ما تسمع في مشاعر وقلب وحرص طلال، والذي لا يلبث أن يقوم برد الأغنية بأغنية مثلها، تزيد من انقسام الشارع حول ثنائيتهما، والتحزب، فهذا فريق يعتقد بأن طلال هو صوت الأرض، وهذا فريق يرى أن محمد عبده فنان العرب، وتستمر شعلة المنافسة متبادلة، والجري، حتى أصبح تلاقيهما شبه مستحيل عند من لا يعرفونهما. وبين الأحبة، والكبار، ومن كانوا يجدون الفن ويرعونه متنوعاً محموداً، كان يحدث اللقاء بين القطبين، بشكل متقطع، وفي كل لقاء تتجه الأعين والأسماع إلى كل همسة، وكل نظرة، وكل حوار يحدث بينهما، ثم لا يلبث أن يكون حديث الشارع، ومجالاً لتكريس التنافس بينهما بإبداع مستمر.
لم يكن طلال يحقد على محمد، ولا على أعماله، وكان محمد يجد في وجود طلال حافزاً، يتحدى معه كل إبداع، ولكنهما ظلا نابضين لا يستسيغان الجمود، فيرمي هذا بكلمة تحدٍ وتذكير، ويقوم الآخر بالرد عليه فناً، يهطل كالمطر على قلوب المعجبين بفنهما.
توقف طلال عن الغناء لفترة، فرأينا أعمال محمد لا تبرق كما كانت، وتوقف محمد عبده لفترة، فرأينا طلال تائهاً بين أوتار الحسرة، والتمني.
لم يكن يخرج أي منهما من عزلته، إلا حينما تشتعل شقاوة الأطفال المبدعين في أنفسهما الفنانة، وعودتهما لمضمار السباق، ودون أن يبلغا حد كسر الحدود والمسافات، ولا اجتراح العلاقات الطيبة بينهما، رغم حسرة العواذل، ممن كانوا يتمنون أن لا يجتمعا، وأن يخفس أحدهما بقيمة الآخر.
ثنائية عرفناها في مواقف تنافس عديدة، وحتى بعد أن اجتمعا محبة في ألحان وطنية، وأمتعانا بشدوهما المتناغم على مسرح الجنادرية لسنوات عديدة، ظلت المقارنة الجماهيرية مشتعلة، لتكون خير دليل، على ثراء ما يمتلكانه من حس ومن فن أصيل، ومن قيم إنسانية تهوى المنافسة والقرين، ولا تتمنى زواله. تلك هي علاقة الكبار ببعضهم، حتى ولو رحل أحدهما عن دنيانا، وحتى وإن كنا لا نزال نسمع التحدي والمقارنة بين محبيهما وبين عصبية نشاز العواذل، الذين لا يعجبهم رجب، ويظلون يجزمون على أنهما لم يكونا تكاملاً فنياً، هو الذي صنع وهج وروعة الأغنية السعودية، بمعظم تراثها، وتجددها، وتحديها لصعوبات كانت تحدث بين الفن وبين المجتمع السعودي.
التعليقات