تجمعني مع المحامي د. محمد الهوشان ذكريات مشتركة عن المنطقة الشرقية في المملكة، فقد أقمت فيها أكثر من عشرين عاماً في أواخر القرن المنصرم. ولكن د. الهوشان أقام فيها في بداية الخمسينات من القرن العشرين حيث اتسمت تلك السنوات بأحداث عمالية لا تزال في ذاكرة الكثيرين، وقد كان د. الهوشان في وسط تلك الأحداث إذ كان في علاقات العمل في أرامكو ثم نائباً لرئيس مصلحة العمل في بداية تأسيسها، عن تلك الذكريات وغيرها الكثير كان هذا الحوار:
النشأة والبدايات
من مواليد المدينة المنوّرة، وأبلغ من العمر 92 عاماً، أنتمي إلى واحدة من أقدم الأسر القصيمية "مدينة الرس"، وأحد أوائل خريجي ثانوية طيبة العتيدة. محامٍ متقاعد ويعلق على كلمة "متقاعد": بأن "القانون" نوع من "الإدمان" يصعب على الإنسان التخلص منه خاصة إذا طال عليه الأمد فإنه يصاحبه إلى قبره!. وقال: التحقت في بداية الخمسينات الميلادية بالعمل في أرامكو حيث عينت في إدارة علاقات العمل، الفتية في ذلك الوقت لأصبح مسؤولاً عن القضايا العمالية ونائباً لرئيسها.
واستطرد الدكتور الهوشان: قرأت بعناية مقال الأستاذ كامل الخطي بعنوان "الشيوعيون في السعودية.. النشأة.. الصعود" المنشور في عكاظ بتاريخ 21 ربيع الأول 1439هـ، وأحزنني كثيراً بسبب الأحكام غير المنصفة على أشخاص انتقل أكثرهم إلى رحمة الله وأضاف: حقبة الخمسينات الميلادية بالنسبة لأحداث عمال أرامكو في المنطقة الشرقية، حقبة تاريخية يجهل تفاصيلها أكثر الناس وخاصة الشباب من الجيل الثالث من أبناء المنطقة، الذين يروون روايات أكثرها سماعية ويكون أساسها الإشاعات في أغلب الأحيان.
حقائق مجهولة
وأكد الهوشان أن هناك حقائق يجهلها الكثيرون -من وجهة نظره-
وأولاها: أن عمال أرامكو كانوا يتكونون أساساً من ثلاث طوائف: الأولى Saudi Camp أي المخيم السعودي، ويسكنه العمال العاديون وهم الغالبية العظمى القادمون من شتى أنحاء المملكة طلباً للرزق ويتسمون بالأمية ويعتقدون أن "شركة أرامكو" هي "شريكة" للحكومة ويسمونها "شريكة رينكو" ولا يدركون أن العلاقة بين الحكومة وشركة أرامكو الأجنبية تحكمها نصوص اتفاقية الامتياز ونصوص الأنظمة التي تنظم العلاقة بين العمال وصاحب العمل وبأن الطرفين مقيدان بهذه النصوص وبالتالي فإنهم لا يتصورون أن تحسين أوضاعهم مرهون بتحسين نصوص عقد الامتياز وهي مهمة تدخل في اختصاص وزارة المالية ثم وزارة البترول والمعادن فيما بعد، وتحسين نصوص نظام العمل وإنشاء معاهد للتدريب المهني وإصدار أنظمة للتأمينات والرعاية الاجتماعية وتلك مهمة مصلحة العمل.
ثم تأتي في القمة الطائفة الممتازة Senior Staff وتسكن في مجمعات مترفة تشبه أحسن الأحياء في (كاليفورنيا) وتتكون غالبيتها العظمى من الأميركان البيض (ولا أذكر أن من بينهم أميركياً أسود واحداً) وبعض الأوروبيين، وكنت أحد خمسة أشخاص من السعوديين الذين سمح لهم الانتماء لهذه الفئة.
وبين تلك الفئتين توجد فئة يمكن تسميتها "بفئة النخبة" Elite وهم من كان يسمون بـ "الفئة المتوسطة" Intermediate Staff ومعظمهم فلسطينيون وعرب آخرون "ما عدا المصريين"، كما أن منهم عددا كبيرا من شبه القارة الهندية، أما السعوديون منهم فإن أغلبهم من القادمين من الحجاز وآخرون من الزبير وسوق الشيوخ والبصرة في العراق، وفي حين كانت الشركة تزعم بأنها وفرت للسعوديين آلاف الوظائف وهيأت لهم مساكن إسمنتية بدلاً من الخيام وبيوت الطين، وأنوارا ومراوح كهربائية ووجبات غذائية منتظمة.. تعتقد فئة النخبة بأن العمال السعوديين -وأغلبيتهم من أبناء البادية- قد تنازلوا عن حريتهم مقابل عمل بدني شاق وطويل بأجر زهيد بالنسبة للمستويات العالمية مع وجود حواجز نفسية أهمها أنهم أصبحوا -وللمرة الأولى- تحت إمرة أشخاص "غير مسلمين" لا يتحدثون اللغة العربية، في بلد تقليدي ومسلم لم يسبق له أن يتعامل مواطنوه مع أجنبي وجهاً لوجه.
التيارات السياسية:
ويضيف الهوشان: أن هناك تأثيراً مباشراً للتيارات السياسية السائدة في العالم العربي في ذلك الوقت وخاصة العراق على تلك النخبة السعودية من عمال أرامكو: فمنذ بداية الخمسينات بدأ المد الشيوعي في العراق متأثراً بـ"حزب توده إیران" الذي كان يعد أكبر حزب شيوعي خارج الاتحاد السوفيتي. وكان يتجاذب الشارع العراقي تياران: هما التيار الشيوعي، والتيار البعثي، وهكذا قام الشيوعيون بالانقلاب العسكري برئاسة عبدالكريم قاسم ثم تلاه الناصريون على يد عبدالسلام عارف لينتهي بعد ذلك في يد البعثيين في عهد البكر ثم صدّام حسين. وقد تداعت أصداء هذين التيارين بين النخبة من العرب العاملين في أرامكو، وكان الموسرون من أهل المنطقة يبعثون أولادهم إلى العراق لتقدم التعليم فيه فيعودون مشبعين بالأفكار السائدة في العراق أثناء إقامتهم للدراسة.
ولا يمكن أن نقول إنهم شيوعيون أو بعثيون أو ناصريون؛ لأنهم لا يعدون أن يكونوا متعاطفين (SYMPATHISERS). ولكنهم يعاملون بعضهم وكأنهم أعداء، وكل واحد يشير إلى الآخر بأنه "شيوعي" لأنه يكره عبدالناصر أو هو "بعثي" لأنه كان عروبياً ولكنه لا يحب عبدالناصر.
ولكن تجمعهم جميعاً صفات معينة هي حبهم لوطنهم وإخلاصهم له كما تجمعهم نزعتهم العلمانية وكراهيتهم للاستعمار والغرب بوجه عام وإعجابهم بزعماء "دول الحياد الإيجابي" Positive Neutrality الذين كانوا يمثلون خليطاً عجيباً من التناقضات!!
وكانت مشكلتي الكبرى مع كل هؤلاء ناتجة من نزعتي الاستقلالية : فقد آليت على نفسي أن لا أنتمي إلى أي طائفة منهم، فكانت النتيجة أني نعمت باستقلاليتي ولكني أصطليت باتهامات لا حصر لها من جميع هؤلاء.
الحرب المكارثية:
واستطرد قائلا: إن تلك الحقبة وقعت أثناء محنة كانت تمر بها الولايات المتحدة الأميركية في الشرق الأقصى والتي انتهت بحرب فيتنام مع محنة داخلية تاريخية هي (الماكارثية)، وهي الحرب الشرسة التي شنّها السيناتور ماكارثي ضد كل ما هو تقدمي في الولايات المتحدة الأميركية إذ تسبب في سجن العشرات من الكتّاب والمفكرين والسياسيين وكانت ردة الفعل في إدارة أرامكو (التي كانت أميركية 100 %) حالة من البارانويا (PARANOIA ) السياسية. فإن المطالب العمالية لم تكن سوى مطالب عادية حدث مثلها من عمال الزيت في المكسيك بل وفي الولايات المتحدة الأميركية نفسها قبل وبعد نشوء الاتحاد السوفيتي. ولذلك فإن السياسيين الأميركان ومديري شركة أرامكو كانوا يتهمون بعض المتنورين مثل جمال الحسيني (ابن عم مفتي فلسطين) وعبدالعزيز إبراهيم المعمر بأنهم "يساريون" أو "شيوعيين متسترين" -كما قال الكاتب الخطي- في حين أنه في نفس الفترة كان شمعون بيريز يمثل إسرائيل سنوياً في الاجتماعات الأممية في الاتحاد السوفيتي باعتبار أن إسرائيل -في زعمهم- دولة اشتراكية، وكان يصدح بنشيد "الانترناسيونال" بأعلى صوته دون اعتراض أو حتى تعليق من الأوساط الأميركية!!
التهم الباطلة:
واستطرد في حديث الذكريات بقوله: إن الشيخ عبدالعزيز بن إبراهيم المعمر لم يكن في الواقع سوى رجل وطني مخلص كانت أهدافه عندما كُلف بتأسيس مصلحة العمل والعمال، معلنة، بل بدأ في تنفيذ برنامجه ولكن التهم الباطلة أودت به، كان من أول أهداف عبدالعزيز بن معمر هو استبدال نظام العمل القديم الذي لم يكن يوفر الرعاية الكافية للعمال بنظام جديد هو النظام النموذجي الذي أعدته منظمة العمل الدولية في جنيف، وكانت نتيجة هذا المجهود أن تبنى الملك فيصل -يرحمه الله- فيما بعد نظام العمل النموذجي المذكور كأساس لنظام العمل والعمال السعودي بل والتحقت المملكة كعضو في المنظمة الدولية حضرها الوزير عبدالرحمن أبا الخيل ومن بعده الوزير إبراهيم العنقري -يرحمه الله-.
وكان من أهداف المعمر أيضاً إنشاء معهد للتدريب المهني وقد تأسس المعهد الملكي المهني حال تولي الملك فيصل حكم البلاد، كما كان ينادي عبدالعزيز المعمر بنظام للتأمينات الاجتماعية فوافق الملك فيصل -يرحمه الله- على نقل النظام الفرنسي للتأمينات الاجتماعية ليكون أساس نظام التأمينات السعودي. ويعد النظام الفرنسي أكثر الأنظمة الأوروبية تقدماً حتى الآن.
ويتساءل الهوشان: أيقال بعد ذلك أن عبدالعزيز المعمر كان "شيوعياً"؟، ومن أجل الإنصاف أريد أن أقول كلمة حق -إن شاء الله- عن الشخص الذي خلف الشيخ عبدالعزيز بن معمر في إدارة مصلحة العمل والعمال وهو المرحوم تركي العطيشان الذي كان مستشاراً للمرحوم الأمير سعود بن جلوي، وقد كان قبل ذلك أول مدير شرطة في الرياض أيام الملك عبدالعزيز -يرحمه الله-.
لقد كان تركي العطيشان رجلاً من أعقل الرجال وأكثرهم حكمة، وقد اكتسب بحكمته ثقة العمال وثقة شركة أرامكو ووظّف أو أقرّ توظيف نفر من المتعاطفين مع العمال في مصلحة العمل منهم الأستاذ عبدالعزيز السنيد والكاتب والشاعر المعروف عبدالله الجشي وسمح باستمرار برامج الإصلاح حتى آتت ثمارها.
جامعة فؤاد
وزاد: تشرفت بأن أكون مساعداً له وقد كنت من خريجي جامعة فؤاد الأول (القاهرة فيما بعد) وليس من جامعة بغداد -"كما زعم الخطي"- إذ لم تطأ قدمي أرض العراق قط. وقد عشت في مصر أربع سنوات منها سنتان قبل عبدالناصر وسنتان بعد وصوله للحكم.
وختم الدكتور الهوشان تعليقه على مقال الخطي بأنه كان يتمنى لو كان الكاتب قد تحرى وتأكد من معلوماته بدلاً من استناده إلى قول بعض الأميركان بوجود "شيوعيين متسترين"، ولم يراعِ تأثير ذلك على سمعة من ذكرهم ومنهم من انتقل إلى رحمة الله ولا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم.
تعريفات دارجة
وقد لفت د. الهوشان النظر إلى مقال بقلم الدكتورة روزي بشير (Rosie Bsheer) نشرته مجلة (Past & Present) الأميركية بالمجلد رقم 238 الطبعة الأولى بتاريخ 1 فراير 2018م وهي أستاذة من أصل لبناني تحاضر في جامعة من أكبر الجامعات الأميركية وهي جامعة ييل Yale University، وقال إنه تشرف بمقابلتها عدة مرات ويعدها من نوابغ هذا الجزء من العالم، فقد كتبت ترجمة عن حياة الشيخ عبدالعزيز إبراهيم المعمر ووصفته بأنه Leftist أي "يساري". ولا شك أنها قد تأثرت بذلك بالتعريفات الأميركية الدارجة فإن كل من لا يكون يمينياً متطرفاً فإنه يعد في نظرهم "يسارياً". وأنهى حديثه بقوله: "لعل ما شرحته يكون كافياً لإظهار الحقيقة".
التعليقات