عندما ينجح الميثاق التعليمي في دعم الخطاب التنويري، دون اختزال الإسلام في جزئيات ومواقف يستخدمها المتشددون والمتشددات، فإنه يعني نجاح المنظومة التعليمية في حمل رايات التنوير الفكري، وسعة الأفق في إدارة العلاقات الإنسانية داخلها، وعدم التفريط في أي توجه من توجهات الوطن وآماله الكبرى..
سعت وزارة التعليم مؤخراً للتخلص من إرث الإخونج وفكر الصحويين اللذين هيمنا على التعليم عدة عقود، وهذا أمر يحمد لها وإن كان قد تأخر كثيراً، وكان الأمير خالد الفيصل قد صرح في العام 2014 حين كان وزيراً للتربية والتعليم بقوله: «إن من أهم أسباب انتشار الفكر المتشدد إعطاء أصحابه فرصة في التعليم والمجالات الأخرى.. كان المجال بأكمله لهم، ولم يكن هناك مجال للفكر السعودي المعتدل ومنهج الاعتدال. تخلينا عن أبنائنا فاختطفوهم».
والمؤسف في هذا الأمر أن القائمين على التعليم العام والعالي، لم يفلحوا حتى اللحظة في فضّ سجون العقل وكسر تلك الجدران الصماء المحيطة به، فبقي عصياً على التغيير!
ولو نظرنا إلى ما ينشر في الصحف المحلية من أخبار تتعلق بتنقية مجال التعليم ممن يتلبسون بالتحزب وبفكر الصحوة، لوجدنا أن الأمر يتعلق بمدارس البنين دون مدارس البنات التي يسود فيها الانغلاق والتصحر الفكري على نحو يفوق مدارس البنين، نظراً لعزلة مدارس البنات عن الفضاء العام، علاوة على عدم الرقابة على ما يحدث فيها من نشر للفكر المتشدد عبر ممارسات وأنشطة غاية في الصرامة والترهيب. فلقد اختزلت إنسانية التلميذات في تلك الأجواء، خلف سياج محكم من الشبهات والشكوك والمحاذير، التي صنعتها مخيلة معلمات متشددات، وهذا انحراف في النظرة التربوية التي لم تستطع استيعاب أنهن أمانة في أعناق القائمات على تربيتهن وتعليمهن، وإنهن في سن يكثر فيها الفرح والابتهاج بالحياة وعدم العبوس والانكفاء على الذات؛ فالقوانين المدرسية التي تسنها بعض المديرات والمعلمات المتشددات، تفتقد إلى كثير من المرونة، وتبدو أكثر شدة من قوانين السجون ومدارس رعاية الأحداث؛ لأن دور القائمات على مدارس البنات قد أفرغ من محتواه التربوي والأمومي، وقصر على الرقابة السلبية والتشدد ورصد المخالفات قبل وقوعها.
ويأتي لبس العباءة وغطاء الوجه ولبس القفازات والشراريب السوداء في بعض المدارس في قائمة الأمور التي تلزم بها التلميذات -لاسيما عباءة الرأس- لا فرق في ذلك بين تلميذات المرحلة الابتدائية وما بعدها. ولعلنا ما زلنا نذكر مديرة إحدى مدارس البنات التي منعت عدداً من الطالبات من الدخول إلى مدرستهن بسبب ارتدائهن عباءة الكتف، وطردتهن من المدرسة بعد مصادرة عباءاتهن التي كنّ يرتدينها.
ومما ساهم في إحكام قبضة أولئك المتشددات على مدارس البنات ذلك الخطاب الدعوي المتطرف الذي يروج منذ سنوات ويجد له بيئة خصبة ورعاة في تلك المدارس، ولو أخذنا نبحث في سمات هذا الخطاب الموجّه لطالبات المدارس عبر المحاضرات والمطويات والكتيبات الدعوية التي توزع في مدارسهن وكلياتهن وجامعاتهن، لوجدناه يحفل بالترهيب والتخويف من عذاب الله، وسهولة التكفير، والمبالغة في سوق القضايا التي تمعن في تجهيلهن بإيراد أمور يعجز العقل عن استيعابها.
ويحتل موضوع العباءة قمة ذلك الخطاب، فقد ورد في إحدى المطويات التي توزع في المدارس رسم للعباءة، وأمامها جثة مسجاة كتب فوقها: (فهل تنفعك..؟ ماذا تريدين من هذه العباءة المزركشة والمخصرة التي تشترينها بالمئات وأنت توضعين في القبر في كفن من أرخص الأقمشة؟) تكمن المبالغة في ترهيب الفتيات وتجهيلهن في التحذير من تلك العباءة التي يزعمون غلاء ثمنها لمجرد أنها تلبس على الكتفين، وهذا غير صحيح!! ولو استقامت حجة المطوية لكان على كل الناس الاكتفاء بأرخص الأشياء لأن الموت في انتظارهم، ولماذا على الفتيات فقط أن يتجنبن شراء تلك العباءات، بينما يلبس الرجال أنعم وأرق الأقمشة والأشمغة، ويركبون أفخم السيارات ويسكنون البيوت والقصور الفارهة؟!
ويمعن ملصق آخر في الاجتراء على قدر الله، فيقسم النساء إلى قسمين، قسم يحكم له بدخول الجنة، وهن اللاتي يلبسن عباءة الرأس، وقسم يحكم عليه بدخول النار، وهن اللاتي لا يلبسن تلك العباءة!
كما بالغت إحدى المطويات في التنفير من العباءة التي توضع على الكتفين عندما نقلت قولاً لأحدهم يحذر فيه المرأة من لبس العباءة على الكتفين لأن ذلك سبب للفتنة والضياع، ولا أدري كيف استطاع الحكم بضياع كثير من النساء اللاتي اعتدن على لبس العباءة على تلك الهيئة، وهل قوله هذا مما يسمح به الدين؟ لقد استغل ذلك الخطاب الماكر والمراوغ ولع البسطاء بالصورة وبالمظهر لا بالجوهر، فعمل على اختزال الدين والتدين فيه، وصور لهم أن هذا هو مظهر التقي والورع والصلاح والصدق، أما من خالف هذا النمط الشكلي فليس بمؤمن ولا تقي ولا ورع!
ومن الأسئلة التي تتوارد على الأذهان منذ مدة ولم تجد إجابة لدى الوزارة هي: هل يوجد في لوائح الوزارة وتعاميمها ما يجبر التلميذات على عباءة الرأس وغطاء الوجه؟ ولماذا يترك الأمر بأيدي المديرات والمعلمات المتشددات لفرض قناعاتهن على التلميذات إذا لم يكن ثمة توجيه من الوزارة؟ ثم ماذا عن اختلاف العلماء في مسألة كشف الوجه، وإجبار التلميذات على وجهة نظر واحدة لا تلزم الجميع؟
عندما ينجح الميثاق التعليمي في دعم الخطاب التنويري، دون اختزال الإسلام في جزئيات ومواقف يستخدمها المتشددون والمتشددات في مآرب خاصة، عندما يحدث هذا فإنه يعني نجاح المنظومة التعليمية في حمل رايات التنوير الفكري، وسعة الأفق في إدارة العلاقات الإنسانية داخلها، وعدم التفريط في أي توجه من توجهات الوطن وآماله الكبرى.
إنّ أيّ منظومة تعليمية لا تلتفت التفاتة حقيقيّة إلى الحاضر والواقع المعاش، ولا تقدم مفرداتها على أسس ترتكز على فائدة ما تقدمه للمتعلم من حيث ملاءمته لثقافة العصر وعقول المتلقين، وما يمكن أن تضيفه لهم على الصعيد المعرفي والوظيفي، إن منظومة كهذه تكبلها أغلال الفشل، مهما ادعت حرصها على تطوير فلسفتها وآلياتها.
1
مسبار
2018-04-15 09:01:20سجن "غياب الوعي"، وهو أشد درجات الحرمان التي يمكن أن يتعرض له الإنسان، جريمة بشعة ارتكبتها رموز الصحوة في وضح النهار في زمن امتد لعقود أربعة عجاف. هذا الحرمان تفجر دموعا لم تنبع من بؤبؤ العين إنما من أعماق أعماق العقل الباطن للدكتور الغذامي في لقاء معه حديثا. هذا الحرمان الذي يعد ظلما مركبا وجريمة منظمة يجب محاكمة كل من ساهم فيه من رموز الصحوة محاكمة عادلة رادعة وإلا فإن نسخ جديدة من هذا الفكر المتنطع الإقصائي العنصري ستواجه الأجيال القادمة والتي لن تغفر لسلفهم تجاهلهم لمحاكمة من تسبب في غياب وعي المجتمع. عودة الوعي تحققت الآن ولا بد من حمايتها لتزدهر وتنمو وتسود.