يعتبر إقليم كاتالونيا أحد أهم أقاليم إسبانيا، وأحدى مناطق أوروبا الأكثر شهرة.
في الأول من تشرين الأول أكتوبر 2017، أجرى الإقليم استفتاء حول الانفصال، شارك فيه 42% من المسجلين على قوائم الاقتراع.
وكما حدث في كردستان العراق، في 25 أيلول سبتمبر، كان العالم على موعد مع تطوّر انقسم الناس بشأنه، علماً بأن الحدثين متباينان، لناحية الحيثيات والتداعيات المحتملة.
لقد بدت أوروبا موحدة، على المستوى الرسمي من الاستفتاء، على الرغم من تباينها حيال التطورات المرافقة له.
قضية كاتالونيا تعيد إلى الأذهان مسألة النزعة القومية في عموم أوروبا، وفلسفة الدولة الوطنية فيها.
لقد تشكلت الدولة في أوروبا، في مرحلة ما بعد وستفاليا (بعد حرب الثلاثين عاماً) على أسس منافية للنزوع المذهبي الذي كان في قلب الحرب، لكن هذه الدولة غالباً ما تجنبت في الوقت نفسه تعريف نفسها قومياً.
لاحقاً، جاء المفهوم "الاجتماعي" للهوية، كفلسفة توليفية للدولة في أوروبا. ومفاد هذا المفهوم أن الأمة عبارة عن مجموعة بشرية تعيش في حيز جغرافي موحد – هو الدولة - وتقيم فيما بينها علاقات تفاعلية منتظمة.
هذه الفكرة، العابرة للقوميات، ظلت مقبولة في ظروف الوئام، وتنامي الشعور بالقواسم المشتركة، التي جرى تعريفها لاحقاً بالانتماءات الأفقية، المتولدة بفعل العيش المشترك، خلافاً للانتماءات المعروفة أو المصنفة بالرأسية.
مصطلح الدولة الوطنية في أوروبا لا يمثل تعبيراً رديفاً "للدولة القومية" بالمفهوم الذي قال به بعض رواد الفكر القومي في القرنين التاسع عشر والعشرين، الذين عرفوا الأمة تعريفاً بيولوجياً.
في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، جاءت اتفاقية روما مستهدفة بناء مفهوم جديد للعلاقات الدولية، داخل أوروبا، ينهض على تشابك المصالح وتداخلها، على نحو يحول دون توّسع النزاعات وخروجها عن نطاق السيطرة. ولاحقاً، أولد هذا المفهوم المجموعة الأوروبية ثم الاتحاد الأوربي.
في الوقت ذاته، قاد تشكيل المجموعة الأوروبية، والاتحاد الأوروبي، للحد من حدة الضغوط المتولدة من نزعة الانتماءات الرأسية، القومية على وجه الخصوص، لكونه قدم نفعاً عاماً لكل الأوروبيين، على الرغم من أن "المواطنة الأوروبية" لم تتطور كمفهوم حتى اليوم، لأن الاتحاد ليس اتحاد الشعوب بل الدول.
الدولة الحديثة في أوروبا ترى في النزعة القومية تهديداً لمكتسباتها، وربما أصل الفلسفة التي نهضت عليها.
في المقابل، أولد عصر العولمة، ونواتجه الثقافية والاقتصادية، وسياقه القيمي الهائل، ما يعرف بالموجة المعاكسة، التي تجلت في عودة الحنين للانتماءات الرأسية، بما في ذلك الانتماء القومي.
القضية هنا، على درجة بالغة من الحساسية، إذ كيف تقبل بحق المجموعة الاثنية دون تهديد لحق الدولة؟ وكيف تحافظ هذه المجموعة على خصوصيتها دون أن تفرط بما وهبه لها الفضاء الاجتماعي والجيوسياسي الأكبر؟
هذا النقاش قديم نوعاً ما، لكنه أضحى أكثر حضوراً بفعل العولمة، على الرغم من صحة القول، في الوقت نفسه، بأن هذه الأخيرة تمثل النقيض التاريخي للجيوبوليتيك بمدلوله القديم.
إن تعميق المضمون الاجتماعي للوحدة القارية، أو الوطنية، في أوروبا يُمثل أفضل السبل للتأكيد عليها. والدولة القوية هي الدولة الأكثر قدرة على تعزيز الشعور بالانتماء المشترك بين أبنائها.
وبالعودة مجدداً إلى موضوع كاتالونيا، لا بد من التأكيد على ضرورة بحث المسألة في أجواء من التفاهم. وعلى الاتحاد الأوروبي أن يمسك بزمام المبادرة، ولا ينأى بنفسه عن هذا الأمر. وهناك دور كبير ينتظر المجلس الوزاري الأوروبي والمفوضية الأوروبية، والانهماك في الوضع الراهن يعد أقل كلفة من تجنبه، على أي حال.
التعليقات