لو قيض لك أن تتسلم جثة قريب من المشرحة فإن أول ماسيصدمك هو البلاستيك، أن ترى الجسد الذي كان ناضحاً بالحياة مخزوناً في مادة حافظة ليمكن حشره في ثلاجة. ويستمر حضور البلاستيك سواء في السينما أو الأخبار حيث تنقل فيه جثث القتلى من ساحات المعارك للأوطان في الواقع والخيال.
ومع تصاعد تلك المشاهد المبثوثة من الحروب والكوارث المتكررة تنشأ حساسية خاصة بين الجسد البشري والبلاستيك تقارب بعض الشيء حساسية الجسد للتراب الذي انطبع في الذاكرة البشرية بصفته القبر أو المآل الحتمي.
وضمن سلسلة اختراعات العودة لعطايا الطبيعة للتداوي فإنهم يقودونك لتلك الحجرات بسراديب المنتجع، حجرات تسبح في شحوب أزرق يحتويك بغموضه، وببساطة تستسلم بينما يحشرون جسدك في كيس من البلاستيك التي توحي سماكته بأنه لامفر، وفي لمحة تتشرنق بالبلاستيك الأزرق من أخمص القدمين للذقن بحيث لايظهر منك غير الرأس، ثم يسجنونك على تلك الطاولة ويقومون بتعبئة الكيس بغاز CO2 الآخذ ينتفخ حولك كفقاعة لامرئية بلاطعم ولارائحة، وتستلقي هناك منطاداً سابحاً بين سحب مشحونة بذلك الغاز الكاربون ديكيوكسايد 2 الذي يتواجد عادة في طبقات الجو العليا ويعتقدون بقدرته على تجديد الحيوية ورفع قدرة الجسد على الشفاء الذاتي.
وإن ما يحدث في الكيس في العشرين دقيقة ليتجاوز الزمن، أنه تماهٍ بذرات ذلك الغاز التي يتسلل بك غائصاً في دواخلك، لبطائن خلاياك مراقباً ذرات جسدك تتشرب ذلك اللامرئي الذي تستشعره في شعشعة غامضة شبيهة بالفوران، وتستحيل العشرون دقيقة لوقفة زمنية بلا أول ولا آخر، مساحة من اللانهائي تتلخص فيها حياتك، أنها أشبه بتجربة الرجعة من الموت، هذا النفق الذي يحكيه الراجعون ويتم فيه حسب رواياتهم استرجاع رحلة الإنسان الأرضية بتنوير يفضح حكمة كل ما كان، حتى تلك التجارب التعيسة تكتسب في ذلك النفق جمالاً لكونها تلعب دوراً حيوياً في حبكة وجودك. في النفق بين الحياة والموت كما في النفق الذي يفتحه الغاز لبصيرتك تنوير لكل معتم و تبرير لكل درامي و معنى لكل وجع. و بالنهاية لاتشعر بأنهم قد فتحوا الكيس وأفرجوا عنك وإنما أنت تسربت في حالة وجودية أشد خفة وشعشعة من نسائم الصباح.
خفة شبيهة يقدمونها لك في جرعات الأوكسجين، يشبكونك لأنبوبة الأكسجين ويتركونك لستين دقيقة تتنشق نقاء الغابات، تنظر للمسترخي بالمقعد أمامك غائباً في سحب الأكسجين، ولاتغيب عنك ملامح ذلك العطار من سوق البلد بوسط جدة القديمة، مغمض العينين ينهل من الأكسجين، وتتخيله في حانوته بجدة مواجهاً لأكوام البهار يتنشق زهوة ألوانها، وتشعر بأنك في مسرحية من مسرحيات صامويل بيكيت يُسَوِّقون فيها كل متناقض وعبثي.
أجواء تشبيهية مسرحية تورطك في سباحة عبثية في غار السحب وبطائن الأكسجين لعلك تنجح في استحضار الطبيعة ووصل ما انقطع بيننا وبين عطاياها التي لاتُحَد.
لكن الأكيد أن معجزات تتحقق في تلك المنتجعات التي هي بمثابة حبال سُرية تربط بالطبيعة أناس أعيد بناء هياكلهم العظمية وتأهيلهم من جديد للحياة، ولاتعرف هل سر شفائهم يكمن في الماء أم الأكسجين أم الملح الهمالايي أم الغاز أم لعلها والأهم الدقائق التي يُجْبَر فيها المرء على الجلوس مواجهاً ذاته، يتأمل فيها ويتفكر فيما كان منه ويكون بعيداً عن سطوة اللغو الذي يغزو الروح من الهواتف النقالة والكمبيوترات ووسائل الشيوع أو الاتصال. الأكيد أن البشر يتغيرون بالمقام في هذه المصحات، وحتى تلك الديكتاتورة التي أضافت بهاراً للحبكة صرت تسمع ضحكاتها هنا وهناك وتلاشى سيل الميانين ( المجانين) الذي طاردوها برأسها للمنتجع.
التعليقات