وقفت في الفترة الأخيرة على عدد من الدراسات حول الأمن الإلكتروني، صدرت عن مراكز أبحاث غربية.

جاءت هذه الدرسات في سياق ردود الفعل العالمية حول الهجمات الإلكترونية غير المسبوقة، في حجمها ونطاقها، التي خلفت أضراراً متفاوتة في العديد من البلدان.

بالأمس، قال البعض بأن الأمن الإلكتروني هو أمن الفضاء الافتراضي للبشرية.

ورأى البعض الآخر أيضاً بأن الأمن الإلكتروني هو أمن الوسائط. وهذا تعريف تقني، ابتدائي أو تأسيسي، لا يُمكن لأحد التعويل عليه، حاله حال القول الأول، العام والإجمالي.

الأمن الإلكتروني هو أكثر من ذلك بالضرورة. هو أمن الفضاء الحيوي والاستراتيجي (لا الافتراضي) للدول والأمم.

ومتى يا ترى سيقف الباحثون على تعريف جامع، ومتفق عليه، لهذا الأمن؟

هذا الأمر قد يكون بحاجة إلى سنين طويلة من التأصيل العلمي، مفهوماً ونطاقاً ومنهجاً. وهذه مهمة شاقة وكبيرة للغاية.

إن ما يكتب اليوم هو في الغالب تعريف بالأخطار والأضرار، وبعض التوضيح للآليات والمداخل. باحثو العلوم السياسية لا يعدون أصحاب اختصاص في هذا الشأن، لكنهم عملياً =الأكثر حضوراً، قياساً بنظرائهم في مجالي الأمن والدفاع. وهذا أمر مفهوم على أي حال.

هناك من يكتب عن الأمن الإلكتروني، وهناك من يبحث في الإرهاب الإلكتروني، والخلط بين الأمرين ليس صحيحاً.

على الباحث أن يحدد ما الذي يريد إيصاله للرأي العام. ولا ينبغي أن يكون الهدف مجرد توصيف للواقع وتحدياته.

دراسات الأمن الإلكتروني يجب أن ترتكز إلى مناهج التحليل الأمني والدفاعي، ولا يصح أن تشد عنها، وإلا وقعت في حالة من التيه والفوضى.

من جهة أخرى، فإن دراسات الإرهاب الإلكتروني يصعب اسنادها إلى مناهج تحليل ثابتة. هذا يعتمد على ماهية الإطار البحثي الأولي، من محاور وأدوات بحثية وإشكالية وفرضيات، معطوفاً على اتجاهات المحتوى، وما إذا كانت سياسية أو أمنية أو عسكرية أو غير ذلك.

الباحث في هذه الحالة عليه أن يكون دقيقاً في تعريف ما هو بصدده، وأن يوضح ذلك في مقدمة بحثه، ويترك للقارئ الحكم على مسارات البحث وأدواته، وما إذا كانت منسجمة مع المحتوى ورسالته.

هذه ليست مهمة سهلة بالنسبة لأي باحث، بل هي بالضرورة نوع من التحدي.

أياً يكن الأمر، نحن الآن أمام جهود علمية دولية مشكورة ومحمودة، تمثل في مجملها باكورة مسار جديد في الدراسات الأمنية والدولية.

المطلوب اليوم من مؤسسات البحث العلمي العالمية، بما في ذلك الكليات العسكرية، أن تبدأ عملية تأصيل نظري واسعة النطاق للمصطلح، على مستوى المفهوم والمنهج والأدوات البحثية والتحليلية، وأن تقدم مقاربة تحظى بالحد الأدنى من التوافق على مستوى المجتمع البحثي العالمي.

المشكلة هنا هي أن الكل يعتقد بأن المهمة ليست مهمته، في حين أنها مهمة الجميع دون استثناء.

يجب أن تنبري بعض الجامعات أو الكليات العسكرية لإصدار كتب خاصة بهذا الغرض العلمي التأصيلي، إذ لا يبدو أن مراكز الأبحاث لديها مثل هذه الأولوية، ومن الصعب التعويل عليها في هذا الشأن.

إننا اليوم بصدد مرحلة انتقالية، الكل يعمل "بمنهجه" الخاص، وأحياناً دون منهج. ونتيجة ذلك أن أصبح هناك الكثير من الجهد، والقليل من التأثير على مستوى الواقع الفعلي.

هذه الحالة يجب أن تكون انتقالية ومحدودة الأمد. والأمل هو أن نصل عما قريب إلى أرضية علمية مشتركة، نقف عليها جميعاً.

وتذكروا دائماً أن الأمن الإلكتروني لا يقل أهمية عن أي مجال آخر من مجالات الأمن، بما في ذلك الأمن النووي.