القطب الجنوبي المتجمد.. تلك القارة المعزولة القاسية التي تصل درجة الحرارة فيها إلى 90 درجة مئوية "تحت الصفر".. وأجواؤها الطاردة للبشر، وغرائبها الجاذبة لهم. هذه القارة العجيبة، لم يعش فيها الإنسان حتى بَنت فيها بعض الحكومات محطات بحثية يذهب إليها الباحثون. واليوم، فإن متوسط الباحثين (وطاقم المساندة) الذين يذهبون إليها يقترب من 1000 في فصل الشتاء، و5000 في فصل الصيف. وأي صيف هو؟!

ولكن ماذا يفعلون هناك؟ في الماضي كانت الدراسات محصورة في رصد الجو ومراقبة المخلوقات الحية القليلة التي تعيش هناك. ولكن اليوم، توجد تجارب علمية مهمة جدا. ومنها تجربة تسمى بتجربة "مكعب الثلج". وهو مرصد يشغل حجما من الجليد كافيا لملء مليون "مسبح" إذا ذاب.

مهمة هذا المرصد هي الكشف عن النيوترينات (الجسيمات الأولية الشبحية التي تكاد أن تكون عديمة الكتلة وسريعة كالضوء) القادمة من الفضاء. فالنيوترينات لها مصادر عديدة منها: المفاعلات النووية، والشمس، والنجوم المستعرة، والثقوب السوداء الضخمة.

المدهش في الأمر هو أن النيوترينات متوفرة بكثرة في الكون، إذ يخترق جسم كل واحد منا نحو مئة ترليون نيوترينو في الثانية الواحدة! مع ذلك فهي أصعب الجسيمات الأولية من ناحية الرصد. والسبب هو أنها ضعيفة التفاعل مع المواد الأخرى في الطبيعة.

نعود إلى القطب الجنوبي ومرصد "مكعب الثلج". فخلال مدة قدرها ست سنوات (كانت نهايتها في عام 2010م) بُني المرصد في منطقة من الجليد حجمها واحد كيلومتر مكعب.. ومن هنا جاءت التسمية. والمرصد هو عبارة عن 86 "كيبل" تمتد داخل الثلج وفي أعماق تتراوح ما بين 1500 متر تحت السطح، وحتى 2500 متر. وكل واحد من تلك الكيابل يحمل 60 كرة، وكل كرة تحوي بداخلها حساسات عالية الدقة، وكمبيوتر صغير (مثل أوردينو) ينقل البيانات إلى السطح.

ما يقوم به هذا المرصد هو عمل غاية في التعقيد. وما أن بدأ في العمل حتى أصبح من أهم التجارب العلمية في تاريخ البشر، فهو يرصد يوميا ما يقترب من 275 مليون حدث للأشعة الكونية، ولو قسمنا هذا الرقم على مليون فإنه عدد ما يرصده من نيوترينات قادمة من الغلاف الجوي.

أما النيوترينات القادمة من الفضاء السحيق، وهي تمتاز بطاقاتها العالية جدا، فإن التجربة لم ترصد سوى ثلاثة منها حتى اليوم! ولأنها عملية نادرة، فقد أطلق الباحثون في التجربة أسماء لتلك النيوترينات الكونية: بيرت، وإيرني، وبيج بيرد!

أخيرا، في القطب الجنوبي، ومن خلال مرصد مكعب الثلج.. قد نجد الحل لبعض الألغاز الكونية المحيرة.