يدرس الطلاب، في مراحل التعليم المدرسي والجامعي، تجربة عصر الأنوار في أوروبا، ورواد هذا العصر، وفلسفته والمقولات الأساسية التي بشر بها.
وإذا كنت بصدد الحديث عن هذه التجربة مع أحد الأشخاص، فيمكنك أن تفترض سلفاً أن لديه خلفية ما حول ما تريد قوله.
في الشرق، كانت هناك نهضة فكرية ذات جدارة، بيد أن قليلاً من الناس فقط لديهم الفكرة أو الاطلاع الوافي على هذه التجربة.
هذه المعضلة، لا تخص من هم خارج الشرق وحسب، بل كذلك من هم داخله. بل أنني طالما قرأت عن احتفاء مؤسسات كبرى في الغرب بشخصيات "التنوير الشرقي"، في حين لم أجد ذلك في مناطقنا إلا ما ندر.
بداية، لا بد من توضيح حقيقة مفادها أنه، وخلاف التجربة الأوروبية، لا يوجد في الشرق عصر محدد يُمكن أن نطلق عليه عصر التنوير.
حركة التنوير في أوروبا ارتدت طابعاً تاريخياً بالمعنى العلمي، أي أن ما بعدها ليس كما قبلها.
في الشرق، لم يكن الأمر كذلك. لم يكن هناك عصر، أو حقبة زمنية، للنهضة الفكرية. فهذه الحركة امتدت، بمستويات متفاوتة، على مدى قرون من الزمن، وشهدت حالات مد وجزر، وتأثرت بتقلبات وتطورات تاريخية كبرى.
من جهة أخرى، لم تكن النهضة الفكرية في الشرق تستهدف الانقلاب على وضع قائم، ترى فيه سبباً للتقهقر أوالركود، كما في التجربة الأوروبية، التي اعتبرت أن الأمة في حالة ظلمة وسبات، أتت بها الثقافة والسياسة، وأن أحد "الانحطاطين" دفع باتجاه الآخر. وكما في كلمة فولتير الشهيرة، فإن "الأمبراطورية الرومانية المقدسة، ليست أمبراطورية ولا رومانية ولا مقدسة".
حركة النهضة الفكرية الشرقية كانت تجربة إصلاحية – ارشادية، قصدت نشر الأفكار الهادفة للخروج من الخرافة والتقاليد البالية، المانعة لنهوض الأمة وتطورها.
عنت حركة النهضة في الشرق، بدرجة كبيرة، بالتركيز على الرؤى النهضوية، وتخليص الإنسان، الفرد والمجتمع، من الأفكار البعيدة عن العصر منذ أمد بعيد.
هذا هو جوهر حركة الأنوار في الشرق، من طشقند وبخارى وحيدر آباد، إلى سومطرة وتطوان، مروراً ببغداد.
ومن هم رواد هذه الحركة؟
خلافاً للتجربة الأوروبية، فإن رواد التنوير الفكري في الشرق كانوا جزءاً من الواقع الديني، ودعاة له. أو لنقل كان الأمر هكذا في الأعم الأغلب. إذ لم تكن الشخصيات العلمانية ذات تأثير حاسم في هذه التجربة، لأنها طرحت مقولات لا جذور لها في الواقع ولا منبت، فبدت غريبة ومعزولة، وموضع توجس من الناس.
برز رجال دين، ومفكرون إسلاميون عالميون، في وسط آسيا، وشبه القارة الهندية، كما أفغانستان، كانوا هم المسؤولين بداية عن انطلاق حركة التنوير الفكري في الشرق. وكان ذلك مع بداية الخط البياني العكسي لمسيرة الدولة العثمانية.
هؤلاء العلماء، مدوا رؤيتهم إلى الشرق الأوسط، وأفريقيا والمغرب، وكان لهم دورهم الهام في بلورة المواقف الأساسية حيال القضايا الكبرى التي واجهت المنطقة، على المستويات الاجتماعية والسياسية، مثل قضية المرأة والوحدة والتجزئة والمسألة القومية. وإن بعض التحولات الكبرى، التي شهدها الشرق، منذ القرن الثامن عشر، قد وجدت ركائزها ومنطلقاتها النظرية، في مقولات هؤلاء العلماء الرواد، وخاصة تلك التي تبلورت في أفغانستان وشبه القارة الهندية.
إن المطلوب هو السعي إلى تعريف أكثر وضوحاً لتجربة التنوير الفكري التي شهدها الشرق، والعمل على تحديد ما يُمكن تحديده من أطر وفواصل زمنية خاصة بها، والتعريف بالأفكار المضيئة التي بشرت بها، وحجم التأثير الذي أحدثته. وهذه مسؤولية النخبة الطليعية. وعلى الجميع تحمل مسؤولياته بصدق وأمانة.
التعليقات