إذا ظنّ القارئ أن "رسائل أُنسي الحاج إلى غادة السمّان"، الصادرة حديثاً في كتاب عن "دار الطليعة" في بيروت، رسائل ذات أهمية أدبية أو أن من الممكن ضمّها بلا تعسّف إلى رسائل العشاق الخالدة، فإن ظنه سيخيب. ذلك أن هذه الرسائل يمكن أن تسعف القارئ أو الباحث في التعرّف على نفسية الشاعر أنسي الحاج المضطربة وغير المستقرة وهو في منتصف العشرينيات من عمره. ولعلها تفيد علماء النفس أكثر مما تفيد علماء الحب، إذا تقصد هؤلاء العلماء دراسة السيرة الذاتية للشاعر الراحل. فهي إذن نتاج فترة معينة من حياته كان خلالها ثائراً على كل ما هو مألوف ومكرس، كما هي انعكاس لمنظومة قيم ذاتية لديه أو اجتماعية لا أكثر ولا أقل.

فبلا مقدمات ولا سابق إنذار، كما يقولون، يسدّد أنسي الحاج سبع رسائل متتالية إلى غادة السمّان يعلن عليها فيها حبّه، ولا يتصور للحظة (كما يتضح من الرسائل) أن "المحبوبة" يمكن أن ترد طلبه، أو تعتذر عن مبادلته الحب الذي يعرضه عليها. فقد "قرّر" هو أن يحبها وما عليها سوى الإذعان لقراره. فهو يقول لها: "نصف الحب إرادة، وقد قررت أنني أريد أن أحبك حتى النهاية، فإما أنتِ أو النهاية".

"أنا لا أظن أنني وحدي بحاجة إليكِ. أنت أيضاً محتاجة إليّ. فلتكن لكِ الشجاعة أن تعترفي بذلك". وفي رسالة أخرى يرد: "إنني أحبّ أن أحبك.. لقد كنتُ واثقاً أنني يجب أن أعرفك ويجب أن تنشأ بيننا علاقة حميمة، غير عادية. وكنت أقول في نفسي: لماذا يجب أن يعرفها كل هؤلاء إلا أنا؟ ألستُ أنا أحق من الجميع؟ كنتُ أشعر أنهم يظلمونني ويخطفونك مني، وأن حقي بكِ هو الحق الشرعي الوحيد"!

وهذا من أعجب وأغرب ما يمكن أن يرد في رسائل الحب، إن صح أن لمثل هذه العبارات، أو الأفكار، من سبيل إلى كتاب الحب أو إلى قاموس العشق. ففي كتاب الحب، كما في قاموسه، لا "يقرر" المرء أن يعشق أو يحب، بل "يجد" نفسه قد عشق أو أحبّ.

أم كلثوم في أغنية لها تقول عن عيني الحبيب: "أمروني أحب لقيتني بحب"، وهذا صحيح، فالعاشق يعشق ولا يقرر مسبقاً، أو بعد تفكير عميق، أن يعشق. أنسي قرر أن يحب غادة السمان، فأبلغها قراره، وفي حيثيات هذا القرار أن غادة "بحاجة" إليه كما هو "بحاجة" إليها. فما عليها والحالة هذه سوى أن ترضخ لمشيئته وتهبه نفسه. وكل هذا إن دل على شيء، فعلى أن "الحداثة" التي رفعها أنسي الحاج على مدى حياته، كانت مجرد شعار لم يمس النفس والروح والسلوك. لقد ظل متخلفاً في أعماقه. مجرد ذكر اشتهى أنثى. ظلت الأعماق تنتسب إلى القرون الخوالي، لا إلى زمن الحداثة والمدنية والحضارة والسلوك المختلف. يريد أن تنشأ بينه وبينها "علاقة حميمة غير عادية".

ما هي هذه العلاقة الحميمة غير العادية؟ لا لزوم للإجابة عن السؤال. الجواب معروف. أما أن يخاطبها خطاباً عاطفياً نقياً وشعرياً، فهذا مما لم يرد بيانه، مع أنه يكتب إلى كاتبة ومثقفة ثائرة مثله، ومتمردة على نفس القيم الاجتماعية القديمة والبالية التي تجسدها عبارة "المجتمع الذكوري" أو "المجتمع القديم".

"وكيف يعرفها كل هؤلاء إلا أنا؟" أليس هو أحق من الجميع بضمها إلى أرشيف مغامراته؟ إن الآخرين يخطفونها منه، في حين أن حقه بها هو الحق الشرعي الوحيد.. وعندها ما على الآخرين إلا أن يتواروا ويختفوا من الوجود!

وتبلغ ثقة هذا الذكر بذاته حدّ القول في إحدى رسائله: "أظن أنني كنتُ أحس بأنك منذورة لي، وكلما كنت أطالع خبراً عنكِ كان يتولاني شعور بالغيرة والضيق والخوف. كنتُ أغار عليك من العالم". وهذا يعني أنه يخاطب امرأة هي ملكه، ويحسّ أنها منذورة له منذ الأزل. كل هذا دون أن يظهر من هذه المرأة أنها بادلته، أو تبادله، أي مشاعر، وأنها في حقيقة الأمر مجرد كاتبة أو روائية أو زميلة له كانت تجلس معه ومع سواه في المقاهي العامة في بيروت!

تختلف رسائل أنسي الحاج إلى غادة السمان عن رسائل غسان كنفاني إليها، التي نشرتها قبل ربع قرن، في أمر أساسي هو أن غسان كنفاني بدا في رسائله إلى غادة السمان "عاشقاً" حقيقياً ربطته بمحبوبته علاقة حب متبادلة، في حين أن أنسي الحاج بدا في رسائله هذه مجرد "مراهق" لا أكثر ولا أقل. مراهق بث غادة مأساته الذاتية أكثر مما بثها أي شيء آخر.

فمن يقرأ هذه الرسائل يجد صاحبها غارقاً في جهيم جنونه وهلوساته أكثر مما هو غارق في جحيم حبه. ليس هناك حب، بل عملية اشتهاء لا أكثر، إن لم نقل مراهقة عاطفية ومراهقة فكرية معاً. ولا ننسى بروز العنجهية والغرور.

يمكن إيراد ما لا يحصى من الأدلة على وجود مثل هذه المراهقة المزدوجة، ممزوجة بالعنجهية والغرور منها، كما أسلفنا "القرار" الذي اتخذه بإعلانه عليها الحب، ومنها أيضاً أنه ليس وحده بحاجة إليها، بل هي أيضاً بحاجة إليه. حاجته إليها يمكن تسميتها، وهي حاجة الذكر إلى الأنثى، ولكن ما حاجتها هي إليه؟ هل هي الحاجة البيولوجية البحتة، أم حاجة فتاة مثقفة غريبة عن بيروت، أصلها من دمشق وفي بداية رحلتها الروائية، إلى صحفي مثله يمكنه أن يقدم لها خدمات إعلامية؟ لاشك أنه يلوّح لها بمساعدات من هذا النوع. ولكن هل يكفي مثل هذا التلويح لإغراء فتاة في وضعها ووقعها في الفخ لم تكن غادة السمان في تلك الفقرة من حياتها مثقفة مجهولة، فقد كانت تعمل في الصحافة، كما كان والدها أحمد السمان رئيساً لجامعة دمشق. فلا يعقل لكاتبة في مثل وضعها أن تتجاوب معه لمجرد أنه يعمل في جريدة لبنانية يومية هي "النهار"، ولو كانت يومها أوسع الجرائد اللبنانية انتشاراً.

تقول غادة السمان في السطور القليلة التي مهدت بها لهذه الرسائل إنها لم تكتب لأنسي أي رسالة. وهذا يتضح بالفعل عند قراءة رسائله التي لا يرد فيها ما يدل على أن الرسائل بينهما كانت متبادلة. فالرسائل هي رسائله وحده وقد أمطرها فيها بوابل من الكلمات التي تدل على اضطراب الذات وولوغها في العبثية وصولاً إلى الجنون. يقول لها: "إنها المرة الأولى التي يجرفني فيها الشعور بأنني على وشك الجنون.. لقد ضعت في نفسي. هل تدركين معنى هذا؟ لقد تمرد فيّ، عليّ، تمردي القديم على العالم، التمرد الذي كنت بواسطته أردّ الفعل وأندلع من قلب وحدتي كالنار".

ويقول لها في رسالة أخرى: "هل إن جريمتي صعقتني؟ هل أنا بريء؟ هل أنا مجرم؟ هل أنا مهتم؟ ماذا فعلت؟ عندما اتصلت بكِ للمرة الأولى كنتِ ماتزالين مجرد إمكانية غامضة، لكن قوية.. إنك ماتزالين بالنسبة إليّ منغلقة على نفسك ترفضين الخروج إليّ بالعري الذي أشتهيه وأريد أن أتحمل وزره".

وتبلغ "أزمته" حداً مخيفاً في مواضع أخرى من رسائله منها هذه الفقرات: "لو تعلمين إلى أي درجة أنتِ مسؤولة عن مصيري الآن لارتجفت من الرعب. لقد اخترتك. وأنت مسؤولة عني شئت أم أبيتِ. لقد وضعت لعنتي الحرة عليكِ.. في النهاية لن تعرفي أجمل من حبي. قد لا أكون واثقاً من شيء ثقتي بهذا الشيء. وأنتِ هل أظل أتحدث إليكِ دون حوار؟ لينته الحب من الأرض وليذهب الناس إلى الجحيم. سأبقى وحدي أطبع حبي على الحجارة. سأحب وحدي الموت والأشباح، وسأحب النهار أيضاً، وسأحب انقراض نفسي العاشقة في هذا العالم الحقير. وسأحبك، ولن أقول شيئاً آخر.. كلمات أقرب إلى الهذيان حيناً، والمجانية حيناً آخر، وبحاجة دائمة لتدخل علم النفس كلمات تدل على أزمة في الذات، لا على حب عظيم تملكه تجاه امرأة مراهقة فكرية وعاطفية ممزوجة بسوداوية و"ثورة" مألوفة عند الكثير من الكتّاب والشعراء في بداياتهم أو في المرحلة التي تسبق العشرين من العمر، في حين أن الشاعر كان يومها في السادسة والعشرين. ولكن لا العشرين ولا الثلاثين ولا حتى السبعين والثمانين بقادرة أحياناً على زجر المراهقة والوصول إلى السوية العقلية. فرب شاعر أو كاتب أو فنان لزمته المراهقة طيلة حياته، وظن أنه عندما يكتب ويفارق الاتزان والسوية والكلمة الدقيقة النازلة منزلها، يكون في ملء الحداثة، وأنه يبدع ويُحلق ويحقق ويستطيع ما لم يستطعه الأوائل!

image 0

غادة السمان

image 0

أنسي الحاج

image 0