رمي الناس بالباطل، والشهادة عليهم بغير الحق إنما تكثر، في الغالب، في المجتمعات التي تقل فيها النزعة الفردية، وتتعزز فيها، كنتيجة حتمية، ثقافة تقديس الرجال
يفسر إمام المفسرين: أبو جعفر بن جرير الطبري قوله تعالى: "ولا تقف ما ليس لك به علم"، بمعنى: "لا تقل للناس وفيهم ما لا علم لك به؛ فترميهم بالباطل، وتشهد عليهم بغير الحق؛ فذلك هو القفو".
والحقيقة أن رمي الناس بالباطل، والشهادة عليهم بغير الحق إنما تكثر، في الغالب، في المجتمعات التي تقل فيها النزعة الفردية، وتتعزز فيها، كنتيجة حتمية، ثقافة تقديس الرجال؛ فما أن يشهد الرمز، والرمزية لا تكون متأتية، في الغالب، من مقام حقيقي، لأحد بالفضل حتى تنهال عليه البشائر؛ وفي المقابل، ما أن يشهد على آخر بسوء، والسوء قد لا يكون له أساس شرعي أو قانوني، حتى تتهاوى المطارق على رأسه من الأتباع الذين لا يشهدون إلا لمن شهد له الرمز، ولا يعيبون إلا من عابه الرمز!
والعوام، والوصف هنا يشير إلى من يرهن عقله ومن ثم تفكيره لرمز ما ليقوده، موجودون في ثقافتنا العربية، قديمها وحديثها؛ وكانت لهم صولات وجولات عانى منها بعض سلفنا الصالح؛ إذ سلبوا حقوقهم، واعتدي عليهم؛ بل وبعضهم لم يشفع له حتى الموت من صلف وعداوات العوام المتأثرين بفتاوى ورؤى الرموز.
دخل قاضي قضاة قرطبة وفيلسوفها، ومؤلف كتاب (بداية المجتهد ونهاية المقتصد)، "ابن رشد الحفيد"، بصحبة ولديه مسجدا في قرطبة ليصلي العصر، فابتدره مجموعة من العوام فطردوه من المسجد مع ولديه، بحجة أن هناك من أفتى بضلاله! وكان بعض مشايخ المالكية في قرطبة قد شنوا عليه حملة شعواء، لمّا لم يفهموا فلسفته؛ ولو فهموها لما تفهموه؛ وهنا تكمن المعضلة!
ذكر الإمام الذهبي في (السير) قصة مقدم الإمام البخاري إلى نيسابور؛ وأن الناس اجتمعوا إليه واحتفوا به؛ إلا أن بعضا من مشايخها حسدوه على مكانته بين الناس، فبدأوا يحذرون الناس منه بحجة أنه مبتدع يقول بخلق اللفظ في القرآن؛ وفي أحد مجالس البخاري هناك، قام إليه رجل من العامة، ممن تأثروا بكلام (المشايخ!!) عنه، فسأله عن رأيه في اللفظ، فأعرض عنه، فكرر عليه السؤال، فأجاب بأن كلام الله غير مخلوق، وأفعال العباد مخلوقة، والامتحان بدعة؛ فشغب الرجل عليه، فتبعه الناس المتحلقين حوله وانفضوا عنه؛ ولم يكتفوا بذلك، بل اضطروه إلى لزوم بيته! هكذا، بمجرد إشاعة قول عنه من قبل بعض المشايخ، بَدّعَه الناس واعتزلوه وأهانوه.
وهنا تحضرني كلمة قالها عيسى بن موسى، بعد أن اتهم عوام الحنابلة أبا جعفر بن جرير الطبري بـ(الرفض والإلحاد)،: "والله لو سئلوا عن معنى الرفض أو الإلحاد ما عرفوه"؛ ولا أظن أن الناس الذين شغبوا على الإمام البخاري في نيسابور سيعرفون معنى" لفظنا بالقرآن مخلوق"؛ وإنما هو الاتباع الأعمى للرموز! والغريب أن أولئك العوام "المحتسبين" لم يكفوا عن هيجانهم بعد مغادرة البخاري نيسابور، بل تعقبوا تلاميذه، وعلى رأسهم الإمام مسلم، صاحب الصحيح، وأهانوهم وبدّعوهم!
وللطبري قصة مشابهة مع عوام المحتسبين الذين اتهموه بأنه رافضي ملحد، (لاحظ الخلطة الغريبة: رفض وإلحاد)، لمجرد أنه اعتبر الإمام أحمد محدثا وليس فقيها! فلقد فرضوا عليه الإقامة الجبرية في بيته؛ وعندما توفي وجيئ بجنازته للمقبرة، رفضوا أن يدفن في مقابر المسلمين (...)؛ ولم يتمكن ذووه من دفنه إلا تحت جنح الظلام!
الإمام النسائي، صاحب السنن، لم ينج هو الآخر من محنة العوام الذين تخلوا عن عقولهم لمن يفكر نيابة عنهم، ويصنف الناس لهم؛ فذاك ضال، وذلك مبتدع، والآخر كافر، وهكذا. إذ لما اعتذر رحمه الله عن تصنيف كتاب في فضائل معاوية، لا كرها له، بل لأنه، وهو المحدث الكبير، لم تصح عنده تلك الآثار التي جاءت في فضائل معاوية؛ وهذا شيء متداول ومعروف عند المحدثين؛ فما يصح عند محدث، قد لا يصح عند آخر، وهكذا؛ أقول لما اعتذر عن تأليف الكتاب، هاجموه وضربوه في المسجد، بل وأخذوا يطعنون في أعضائه التناسلية، كما يقول المؤرخ العماد بن كثير، فخرج من عندهم قاصدا مكة وهو مريض، ولم يكد يصلها حتى توفاه الله!
الكرابيسي، أحد أئمة الشافعية الكبار، خالف الإمام أحمد في مسألة خلق اللفظ، فشغب عليه العامة من الناس آنذاك، وشوهوا سمعته، وأهانوه، بل ومنعوه من السير في جنازة الإمام أحمد، واضطروه إلى لزوم بيته بعد ذلك حتى وافاه الأجل!
إن ما نعايشه الآن، وخاصة في منتديات التواصل الاجتماعي، من شغب على بعض المثقفين، وتشويه لسمعتهم، ورمي لهم بالباطل، لم يكن نتيجة بحث وتحر وتقليب في إنتاجهم الفكري، وعرضه من ثم على محكمات الكتاب والسنة، وإنما لأن الشيخ الفلاني قال فيهم كذا وكذا؛ أو لأنهم قالوا، في كتبهم أو مقالاتهم كذا وكذا، دون أن يفهموا ما قالوه؛ أو دون أن يتفهوا دوافع ما قالوه، إن كانوا فهموه!
ولا خلاص من هذه الأزمة التي لا تنشد تربية جيل يقوم بمهمة بناء وطن معتمد على نفسه وموارده، إلا بإيراد العقل مورده الرباني؛ وذلك بأن يكون الفرد مسؤولا عن نفسه وعن تفكيره، تناغما واتفاقا مع قوله تعالى:" وكلهم آتيه يوم القيامة فردا"؛ وقوله تعالى: "وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه"؛ ونظائرها كثير.
أي بني، اجعل لك من عقلك هاديا ودليلا، فهذا العقل الذي وهبك الله إياه هو، كما يقول الفيلسوف الإغريقي: أرسطو، أعدل قسمة بين البشر؛ وإنك حين تتخلى عنه لفلان أو علان، فإنك حينها تتخلى عن الميزة الإنسانية الأولى التي تفرقك عن مخلوقات الله الأخرى!
1
أم رنا
2016-10-12 22:22:15السلام/ ( كلّ نَّفْسٍ بِمَا كسبت رهينة) كلمة الحق في القرآن الكريم . ونحن نُسلّم عقولنا ! لِمَن لن يُحاسب عنّا!!!
2
دكتور طارق حسين
2016-10-12 21:12:04مقال جميل ورايع جدآ
3
عبدالرحمن بن عمر
2016-10-12 21:10:25ولايسعني أخيراً الا ان أقول مقال جميل جداً جداً
4
اقسم بالله العظيم ، بأنني سأجيب وأعلّق صادقا غير مجامل ، ياعزيزي ، ان تسليم العقل للآخرين ميزة لا يسلكها الا جاهل ، وبالمقابل ليس كل نقد موجه للآخرين هو من باب التأثر بالغير او انها وجهة نظر تكونت من وجهات نظر ، بمعنى ان يكون هناك اتفاق حول نقد شخصية هو ليس حتما ان يكون كما اسلفت بسبب التأثر ، وإنما علينا عدم إهمال قناعات الناس في ما يبدو لهم ، وهنا وحول قنوات التواصل والخوض حول المثقفين ورميهم بآلتهم وقولك بانه يفترض او كما ذكرت ان يتحرى المرء الصدق وان يبحث قبل رمي الآخرين ، وهذا اتفق معك حياله جملة وتفصيل ، وهنا لا أنكر بان هناك ممن يرمون دون تحري وتأكد ، ولكن بالمقابل ليس كل من يقول هو يسلك طريق الآخرين ، وإنما ياعزيزي ، ليس كل من يتم قذفهم ورميهم بآلتهم من المثقفين هم ابرياء ، وقلت لن أجامل ولن اُحابي ، انت ككاتب ومثقف اختلف معك في شي من فكرك ، ولكن كلمة حق ، لأجدك يوماً تمس قناعات الآخرين او تسعى لتهميشها ، لك طريق تسلكة هو من باب التوضيح والترغيب المحبب ودون ان تحاول صنع تصادم مابينك وبين جماهير القرّاء ، وما يميزك هو انك تأتي غالباً بالبينه ، وتقطع باب الجدال
5
أحسنت وبارك الله فيك..مقال ممتع ومؤلم
6
عبدالرحمن بن عمر
2016-10-12 07:51:02المعنى العام للآية ليس بالضرورة تعزيز الفردية، بل اتباع الحق والعلم قبل الحكم. والاتباع هنا لا يكون بالضرورة لشخص أو أشخاص . تعزيز الفردية لا يكون بالضرورة علما بل ربما يكون اتباعا للهوى .
7
محمداحمد
2016-10-12 06:53:35كيف تفيق الامه من غفوتها وتواكب الامم الناهضه!..1- بالمعجزه..لكن فى العصر الجديد لا وجود للمعجزات-على النمط العتيق-.2 انتشار المعرفه وتنقلها، لكن هذه"المعرفه" تدعى الامه انها هى من"صنعها" ويضيفون (سابقا)! ولكنهم نسوا ان صناعتهم تلك كانت كومضه فى الزمن تلاشت وهوت ..للأبد!
8
محمداحمد
2016-10-12 06:42:08تراكمات طبقات الارض حدثت نتيجه تحرّك القشره الارضيه على مدى الزمن...وكانت النتائج...نفط "أسود "وفحم صخرى وكمنتوج استفادت البشريه منه....لكن تراكم الجهل لدى بعض الامم نتج عنه ظلام "اسود"..حالك يغشى العقول والابصار.!
9
محمداحمد
2016-10-12 06:34:37فى المجتمعات البدائيه يكون اتباعهم لفرد منهم على غير بصيره هو السائد، لأن "القطيع " لا يتطلّب منه استعمال العقل...فقط السير فى الخلف وأن فقدوا الطريق فغبار الراعى هو دليلهم..!
10
محمداحمد
2016-10-12 05:03:08من المستحيل ان تجد الامه تبريرا لأفعالهم المأساويه ...فالتاريخ يرصد كل الاحداث بكل دقه ،ان لم يكن بعضه "مسجلا ومكتوبا " فى الرقاع، فتصرفاتهم وسلوكهم اليوم يروى ت"تاريخهم " بكل جلاء...
11
محمداحمد
2016-10-12 04:56:00كثير من الامم تمر بمرحله عمى للعقول والقلوب فى مراحل حياتها، وبعد ذلك تستقيم....! المؤسى ان القوم تستمر حاله العمى هذه مرادفه لهم طوال حياتهم ..اضافه الى عمى الابصار..!
12
محمداحمد
2016-10-12 04:48:10الجهل وضيق الافق ينتج عنه تهميش العقل ... وغوغائيه القطيع وهيجانه الوحشى .
13
محمداحمد
2016-10-12 04:34:11احداث الزمن فى الشرق تتكر ر، والقوم يتكررون ، يتغير الزمان ... ويبقى التكرار سمه مرافقه للقوم وجزء منهم ،لقد عشقوه واصبح من كيانهم..