التحولات الاجتماعية لا تسير بمنطق الأحلام الجميلة، بل هي إلى منطق الصراع أقرب. لن يرضى التنويري بالانسياق إلى غياهب الظلامية التقليدية التي لا تكون خطواتها إلا إلى الوراء بالضرورة. كما أن التقليدي الظلامي لن يرضى بأن يزحزحه التنوير عن مواقعه الاجتماعية والمعرفية التي اكتسبها منذ قرون، عبر وسيط لا أخلاقي من التجهيل وتغييب الوعي

كما لم يأت التنوير الأوروبي من فراغ؛ فإنه - كذلك - لم يقم في فراغ. لقد كان الوقع المظلم لأوروبا في القرون الوسطى هو الباعث أو المبرر لطرح سؤال التنوير الذي أخرج أوروبا من الظلمات إلى النور. ولا زال التراث التنويري، يمد العالم أجمع بنفحات من الحياة، يصعب أن تعيش بدونها؛ رغم بعض صور العقوق له، حتى من أبنائه، ورغم القراءات التي المتجاوزة من جهة، والمضادة لنهائيات القيم التنويرية من جهة أخرى.

التنوير ليس ترفا، وإنما هو (حالة) إنقاذ، وانتشال للأمة من واقع المأساة الإنسانية والتخلف المدني. لم يأت التنوير في سياق طبيعي، وما كان له أن يأتي؛ إلا كرد فعل على واقع مضاد. جاء التنوير؛ لأن كل مفردة من مفردات الواقع كانت تدعو - بضديتها - إلى حالة تنوير. ولولا الظلام؛ لم نبحث عن النور، فضلا عن أن نخترعه من العدم.

لقد أدرك رواد التنوير العربي منذ أيام الطهطاوي - رحمه الله - وإلى هذه الساعة، أن التشابه كبير جدا - على الرغم من الفروقات الثانوية - بين الحالة الأوروبية في القرون الوسطى وحالة المسلمين اليوم. أدرك رواد التنوير العربي أن المسلمين لم يخرجوا - بعد - من قرونهم الوسطى التي تمتد لما يناهز العشرة قرون، وأن عصور الظلام الإسلامية لم تكن أحسن حالا - بمعيار الوعي الكلي - من عصور أوروبا المظلمة ذات النفس الكنسي.

الحالة العربية خصوصا، والإسلامية عموما، حالة ظلامية؛ فيما هي عليه الآن. أي أنها تستدعي التنوير بظلاميتها الراهنة. وكلما تكشف الواقع عن روح ظلامية رجعية؛ كلما كان إحساس الفاعل التنويري بأهمية دوره التاريخي إحساسا عميقا؛ يدعوه إلى (الجهاد) في سبيل التنوير، حتى النفس الأخير.

رد الفعل الذي يتبرع به التقليدي ذو الروح الرجعية، في مواجهة خطوات الإصلاح المدني؛ يكشف عن حجم الكارثة التي تتلبس الوعي الجميعي للأمة، والتي تتسبب في انتكاساتها وهزائمها على نحو مباشر أو غير مباشر. رد الفعل الصاخب هو الذي يدعو إلى إدراك حجم الكارثة، ومن ثم، يكون حافزا لمزيد من الفعل التنويري. وهذا عكس ما يتصوره التقليدي ذي الروح الرجعية؛ عندما يتصور أن صخبه الجماهيري كفيل بإيقاف مسيرة التنوير، أو على الأقل عرقلتها، وحجب بعض مفرداتها من الواقع.

قوى التخلف ترتكب حماقتها الكبرى عندما تهاجم التنوير كفكرة، ودعاته كأشخاص؛ لأنها تكشف عن مدى تغلغل النفس الرجعي في الخطاب الثقافي (الثقافي تجوّزا) الذي كنا نراه؛ إن لم يناصر التنوير؛ لم يقف منه موقف الظلامي الذي يرى الفاعلية التنويرية تهدد موقعه في سلم الكهنوت التقليدي. لك الحق أن تحاور المفردات التنويرية بأقصى درجات الرفض التي تراها. لكن، أن تهاجم التنوير؛ من حيث هو تنوير، فهذا يعني أنك ظلامي حتى النخاع.هناك من لا يريد أن تظهر العلاقة بين التقليدي والتنويري على أنها علاقة صراع، وإنما يريدها علاقة حوار وتكامل. هذا حلم جميل. لكن، طبيعة الوعي التنويري التقدمي، لا يمكن أن تكون في علاقة سلام مع الوعي التقليدي الرجعي الذي يحاول الرجوع بالأمة إلى الوراء. كل مفردة من مفردات التنوير الإنساني، ستجد لها ما يضادها من مفردات السلفية التقليدية التي تقف على الضد من الإنسان.

التحولات الاجتماعية لا تسير بمنطق الأحلام الجميلة، بل هي إلى منطق الصراع أقرب. لن يرضى التنويري بالانسياق إلى غياهب الظلامية التقليدية التي لا تكون خطواتها إلا إلى الوراء بالضرورة. كما أن التقليدي الظلامي لن يرضى بأن يزحزحه التنوير عن مواقعه الاجتماعية والمعرفية التي اكتسبها منذ قرون، عبر وسيط لا أخلاقي من التجهيل وتغييب الوعي.

هناك من لا تعجبه الصراحة !. لكن، لا بد من الصراحة؛ بأقصى ما تسمح به الظروف؛ ظروف الواقع، وليست الظروف الخاصة بما نسمح به نحن لأنفسنا في ظل التوجس والحذر الذي نحاول به تبرير ترددنا، وربما سكوتنا رغبة ورهبة. التيار التقليدي قادر على الإضرار بنا ماديا ومعنويا. لكن، يجب أن تكون هذه القدرة حافزا لنا للقيام بأي شيء لمواجهة هذه الظلامية القاهرة. والواجب أن تكون علاقتنا بقوة التيار التقليدي غير تقليدية. أي، كلما أحسسنا بتنامي قدرته على الإضرار بنا، لا بد أن نكون أشد صراحة وجذرية في مواجهته، وليس أن نخضع لهيمنته ونفوذه.

كما حاول التيار التقليدي المناهض للتنوير بسط نفوذه وهيمنته الاجتماعية، فإنما يكشف بذلك عن مدى خطورته التي يجب التصدي لها بكل قوة وشجاعة. في مصر؛ كانت هناك تجربة طويلة، خضعت للكثير من التحولات. والتجربة المصرية جديرة بالتأمل؛ لأنها ذات مراحل، وذات تنوع؛ ولأنها - وهذا هو الأهم - شديدة الشبه بواقعنا المحلي. كلنا يعرف ماذا حدث نتيجة المد الأصولي الكاسح في السبعينيات، وكيف أصبحت بعض البيئات تحكمها - فعليا - تلك الجماعات الأصولية المتطرفة، إلى درجة كانت تنفذ - بقوتها المباشرة - رؤيتها الخاصة في تحريم (الاختلاط)، فقامت - بنفسها - بالفصل بين أساتذة الجامعات (في أسيوط مثلا) أي بين المرأة والرجل من أساتذة الجامعة.

الممانعة التقليدية شيء، ومحاولة فرض الرؤى الخاصة، وبسط النفوذ على تفاصيل الاجتماعي شيء آخر. طبيعي أن يواجه التنوير الكثير من الممانعة التقليدية، بوصفه ممارسة ضد التقليد والجمود. لكن، يبقى التقليدي هو صاحب المبادرة في تحويل هذه الممانعة إلى صراع. التنويري لا يمارس إلا الفكرة المعلنة في وضح النهار، بينما يمارس التقليدي ما سوى الفكري في السياق الفكري. يستخدم التقليدي كل وسيلة - بما فيها الوسائل اللاأخلاقية الخفية - في مواجهة الفكر التنويري المعلن.

كلما كان التنوير أشد جذرية وأكثر صراحة من جهته، والواقع أكثر بؤسا وتقليدا وتخلفا؛ كانت حدة الصراع أكبر. وكما لا يمكن للفاعل التنويري (المسؤول أمام نفسه) أن يداهن في موقفه من التخلف والرجعية، كذلك لا يمكن للتقليدي أن يتنازل عن مكتسباته الخاصة بمجرد أن ترفع أمامه راية التنوير.

هناك من يستفيد من حالة التخلف وغياب الوعي التنويري. والمستفيدون من تنامي التقليدية الظلامية واتساع مساحتها في الاجتماعي لا يمكن أن يضحوا بها بين عشية وضحاها. لهذا يكثر المنافحون عن التقليدية، سواء من سدنتها المجاهرون بهذه السدانة، أو من مشايعيهم؛ من أرباب الاختصاصات العلمية المهنية، والتي لا تتعانق مع الثقافي العام بالضرورة، بل يقتصر أفرادها -- للأسف - على مخرجات التخصص؛ دون ربطها ببنية الفكر، وكليات الوعي الحضاري.

هناك من يستفيد ماديا من ضمور الفاعلية التنويرية وتضخم النفوذ التقليدي. أي أن موقعه في بنية المجتمع، وامتدادات المصالح الخاصة، تجبره على الوقوف في الصف التقليدي. ولأن الجماهير في المجتمعات التقليدية تساق بمفردات الخطاب التقليدي وبوجدانياته، وبصراخه، وربما صرخاته؛ يحرص التقليدي على محاربة الوعي التنويري الذي يحرر الجماهير من أسر خطابه. إنه يدرك أن (ساهم أو لا تساهم، شارك أو لا تشارك، قاطع أو لا تقاطع....إلخ) وضعية مرتبطة بسيطرة الخطاب التقليدي المناهض للتنوير.

هناك - أيضا - من يستفيد معنويا من هيمنة الوعي التقليدي الرجعي. القيمة المعنوية لسدنة الرجعية مرتبطة ببقائها. نحن نعرف أن هناك مؤسسات قائمة على ترويج هذا الخطاب، بل وأقسام (علمية !) جامعية، تمنح الشهادات العليا، بدرجة الولاء لهذا الخطاب التقليدي. وهؤلاء سيكونون في المهمش الاجتماعي في حال تنامي المد التنويري، وستصل قيمتهم الاعتبارية إلى درجة الصفر، بل ربما كانت المراجعة المعرفية التنويرية كفيلة بمحاكمتهم - معرفيا - على جنايته في حق الأمة.

الخطاب التقليدي يمنح ذويه قيمة معنوية في المحيط الاجتماعي المتماهي مع خطاب التقليد. بل إن بعضهم، وبمجرد حفظه لهذا المتن التقليدي أو ذاك، وترديده لهذا المحفوظ؛ أصبح يفوق في قيمته المعنوية ونفوذه الاجتماعي جميع الحاصلين على أعلى الشهادات العلمية من أشهر جامعات العالم. هذا الوضع بقدر ما يعكس انحطاطا عاما، وارتكاسا في مهاوي التخلف الرهيب، بقدر ما يفسر صعوبة تخلي التقليدي عن تقليديته، وأن الأمر معه أكبر من أن يكون مجرد قضية قناعات فكرية، خاضعة للحوار والجدل المعرفي.

هناك من هو أسوأ من هذا وذاك. هناك الذرائعي الذي يطرح نفسه بوصفه خارج منظومة الخطاب التقليدي؛ بينما هو من سدنتها الخلفيين. هؤلاء يقرأون الجديد والمعاصر قراءة عابرة (للاطلاع والتصفح العابر)، وتعجز بنيتهم الذهنية المتواضعة عن هضم ما يقرأون. تواضع الملكات الذهنية الطبيعية من جهة، وكونهم شبّوا وشابوا على الاقتيات من المفردات التقليدية الجاهزة؛ جعلهم يعجزون عن هضم الجديد، مع حرصهم على مقاربته، ولو لمجرد التباهي الثقافي.هذا النوع الأخير، لا يعادي التنوير، ويناصر التقليد والرجعية؛ لأنه مقتنع ب(خطورة !) التنوير على الهوية والثوابت، ولا يناصر التقليد والرجعية؛ عن إيمان بها وبقدرتها على تحقيق التنمية المنشودة، بل يمارس هذا وذاك؛ لأنه لا يحسن غير هذا العمل العابث. إن هذا النوع، لا يحسن غير ترديد الاتهامات التي يجترها منذ عقود، في محاولة خاسرة للوقوف أمام المد التنويري الصاعد، هذا المد الذي سينهي الغثاء التقليدي في كافة تجلياته، وسيفضح الجهل، ويعري التجهيل. وحينئذٍ؛ ستحاسب الأمة من وقف ضدها، وحال بينها وبين أن تخرج من ظلمات التقليد والموات إلى نور التنوير والحياة.