الزمن الغربي ليس واحدا ولا ثابتا، كما أن الغرب ذاته ليس واحدا ولا متجانسا. الغرب جغرافيا مَرِنة، قابلة للاتساع باتساع العالم.
الغرب أزمنة وهويّات ومراحل متنوعة، بل ومتضادة متصارعة؛ وإن لم تكن متناقضة من حيث صيرورتها في تاريخها الكلي/العام.
نحن نمارس الارتياب بالغرب بتلقائية غريبة، وكأن الارتياب طبيعة فينا، ولا نتساءل بجدية: لماذا نحن مرتابون بكل ما يأتي من الغرب
وعْينا بالغرب هو الذي لا يُطابق واقع الغرب، وعينا بالغرب هو الذي لا يزال (واحدا) و(ثابتا) و(متجانسا) و(متطابقا)؛ قدر ما نحن (واحديون) و(ثابتون) و(متجانسون) و(متطابقون). لم يتغير هذا الوعي (وعينا) بالغرب منذ زمن: (الروم في أدنى الأرض)، إلى زمن أوباما (نصف ـ الرومي!، والغربي الكامل) خطيبا في جامعة القاهرة، بل وربما لن يتغير إلى زمن: (تقوم الساعة والروم أكثر الناس)؛ لأننا لا نزال خارج الصيرورة الإنسانية التي تفرضها تطورات المعرفة ــ ومن ثمَّ الواقع ـ في جميع مناحي الحياة.
كل شيء يتغير فينا ومن حولنا؛ إلا أهم شيء فينا!. العقل العربي ـ إن جاز توصيفه بهذا(العقل) ـ لا يزال مُراوحا بين الزمن الواقعي والوقائعي لحرب البسوس، وداحس والغبراء، وبين الزمن الفكري لنقائض جرير والفرزدق، أي أنه لا يزال (آلية غرائزية) بالدرجة الأولى، آلية تحاول أن تحمي الوجود المادي الأوليّ للجماعة؛ لا أن تضيف شيئا ذا بال لنوعية هذا الوجود. ولهذا لم يكن من المستغرب أن نصبح أكبر منتج لردود الأفعال الغرائزية الضدية؛ بعد أن عجزنا عن صناعة الأفعال العقلانية التي تعي الواقع من خلال بُعديه الأزليين: الماضي والمستقبل.
لقد حضر الغرب الحضاري في واقعنا كواقعة من أكبر متغيرات التاريخ البشري إيجابية منذ بدأت الإنسانية تكتب سيرة وجودها. حضر الغرب في واقعنا منذ قرنين؛ ليفتح وعينا على زمن جديد للتو قد بدأ يتخلّق ويتألق، ولكن لم يكن في استقباله إلا قطعانُ المماليك يحملون ذاكرة الفراغ العَدمي، وبقايا أسلحة صدئة توارثوها من عصور الظلام: السيف والرمح والساطور والخنجر المعكوف؛ ليواجهوا بها المدافع النابليونية؛ وكأنهم استيقظوا بعد أربعة قرون من معركة المنصورة؛ ليواجهوا لويس التاسع (الصليبي ـ الغربي!) الذي كان آخر عهدهم به في "دار ابن لقمان" مقيدا بعد ذلك النصر الميمون.
عندما آفاق أهل الكهف من نومتهم التي كادت تكون موتا، قالوا: (لبثنا يوما أو بعض يوم). تغيرت الدنيا في ثلاثة قرون، وهم في فجوة من كهفهم، لا يدركون حجم المتغيرات التي تقع على الضفة الأخرى من كهفهم العتيد؛ لهذا كان لا بد أن يموتوا في الحال؛ لأنهم أصبحوا خارج الزمن، بل وخارج التاريخ كله. لم يكن التنازع عليهم وهم أحياء، بل وهم أموات، أي لم يكن النزاع على وجودهم الحقيقي الذي يستحيل أن يفعل شيئا ذا بال؛ لأنه أصبح خارج السياق، خارج منطق العالم، وإنما كان النزاع على ما تبقّى منهم، على القيمة الرمزية التي تدور عليها حكايتهم.
أهل الكهف معذورون في انكفائهم بعد مصافحة الصحو؛ لأن نومهم كان نوما حقيقيا طال الجسد والعقل والروح، ولم يكن لهم فيه خيار؛ فلم يعد ثمّة مجال لتجاوز القانون الأزلي القدري للوجود البشري.
هذه هي حال أهل الكهف!. أما التاريخ العربي/الإسلامي فكان الجسد البشري منه في حالة يقظة نسبية، يأكل الأعشاب، ويشرب الأحلام، ويمضغ الأوهام، بينما كان العقل في سبات عميق يعكس حالة مَوَات.
قبل قرنين صحونا على حملة نابليون التي كانت أشبه بجرس إيقاظ لعالمنا النائم، فلم يستطع وعينا الراقد على ضفاف أزمنة عصورنا المظلمة أن يقرأ ما فيها من حمولة حضارية تختصر له قرونا من رحلة كفاح عصور الاستنارة في أوروبا. أفاق وعينا إفاقة بصر؛ لا إفاقة عقل، فبقي مشدوها يعرك عينيه الذابلتين وهو يحاول أن يرى ما يجري أمامه من خلال طبقات الغبار الكثيفة التي تراكمت طوال قرون وقرون على وجهه الناضح بالبؤس المُقيم، وحينئذٍ لم يستطع أن يقرأ في هذه الحملة غير صوت ماضيه القريب رغم بعده!، إنها كما تبدو له: "حملة صليبية جديدة". لم يرَ غير هذا؛ وكأن أربعة قرون ليست أكثر من أربعة أيام في وعينا: وعي إنسان الكهوف.
كانت حملة لويس التاسع آخرَ الحملات الصليبية، وكانت حملة صليبية بحق؛ على الأقل في مستوى ما يطرحه الشعار المعلن. ومع أنه قد مضى زمن الحروب الدينية، وأصبح يفصل بيننا وبين زمن لويس التاسع ستة قرون، ومع أن أوروبا ذاتها تنكّرت للمسيحية وكفرت بالصليب وازدرت الكنيسة؛ إلا أن إمكاناتنا لم تكن تطيق قراءة ما هو أبعد من ثنائية الهلال والصليب.
لم يستطع الوعي العربي/الإسلامي الراهن أن يُفرّق بين (حملة المنصورة)، و(حملة نابليون)، و(استعمار الجزائر وتونس)، و(فرض الحماية على مصر وسورية والعراق ومعظم دول الخليج)، و(العدوان الثلاثي)، و(حضور أميركا في العراق)، و(الحرب على الإرهاب في أفغانستان).
هذه كلها حروب صليبية؛ كما يقرأها وعينا الكهفي الذي ما زالت برمجته قروسطية، بحيث لا يطيق التفكير خارج الخرائط الإدراكية المتواضعة للقرون الوسطى.
وعينا القروسطي لا يستطيع أن يقرأ في كل هذه الوقائع غير ذلك الجانب الديني، لا لأنها فعلا كانت تحمل هَمّا صليبيا، ولا لأن ثمة ما يشير إلى هويتها الدينية؛ وإنما لأن وعينا لا يزال وعيا محدودا تقف حدوده القرائية/برمجته عند ما تسمح به معطيات الواقع المعرفي قبل ستة قرون، أي أنه لا يمتلك إلا أبجديات تفسيرية متواضعة، ترى القادم من الغرب ـ كل قادم ـ مجرد غازٍ صليبي، إن لم يحمل الصليب، فهو يحمله في قلبه لا محالة. بل حتى عندما لا يوجد أي صليب واقعي، لا شكلا ولا مضمونا؛ فلا بد أن تتوهمه؛ لأن وجود الصليب ـ في سياق هذا الوعي المحدود ـ شرط من شروط التفسير بالمقلوب، أي شرط يفترضه التفسير مقدما؛ لأن النتائج هكذا تريد!.
للأسف، كل شيء يتغير ويتبدل ويتطور إلا العقل العربي/الإسلامي الذي لا يزال يتعاطى مع الغرب بثنائية الهلال والصليب. مضى زمن الهلال، ومضى زمن الصليب، وطفت على سطح الواقع معطيات جديدة، تُنبئ عن عالم جديد مختلف غاية الاختلاف. ومع هذا، فلا يزال وعينا الماضوي يتوجس من كل حضور للغرب في واقعنا؛ مهما كان هذا الحضور إيجابيا وخلاّقا ومُنقذا لنا من زمن التكايا والرعايا؛ زمن الفقر والقهر والإذلال.
نحن نمارس الارتياب بالغرب بتلقائية غريبة، وكأن الارتياب طبيعة فينا، ولا نتساءل بجدية: لماذا نحن مرتابون بكل ما يأتي من الغرب؛ حتى بالدواء الناجع الذي أثبت نجاعته على البشر كافة، بينما نلتهم كل أنواع السموم بلا ارتياب؛ لمجرد أنها صناعات محلية، باركها الآباء وعمّدها الأجداد؟!
ألم يحن الوقت بعد لنطرح على أنفسنا الأسئلة الصارمة المحددة: هل صحيح أن الغرب أساء إلينا مُتعمّدا؟ متى وأين وكيف؟ ولماذا نختصر علاقتنا بالغرب بقضية ما، أو برقعة هي محل نزاع تاريخي، ولماذا نحن العرب، ومعنا جوقة الفاشلين من بقايا اليسار المندحر، نشكو ـ وحدنا ـ إساءات الغرب، ونُنَظّر لعداوات الغرب، ونُؤكد تآمر الغرب؛ بينما الناجحون في أقصى الشرق والشمال والجنوب لا يرون في الغرب إلا شريكا مفيدا وصديقا أمينا؛ رغم أن تاريخهم معه متخم بالصراع؟
لماذا ـ نحن وحدنا ـ نقرأ الوقائع بذاتية موغلة في تنرجسها وانغلاقها؟ ولماذا نُصِرّ ـ وحدنا ـ على أن نُضيف تاريخ الغرب القديم إلى حاضر الغرب عند محاكمته/قراءته، بينما نضع تاريخنا خارج محل النزاع؟
بل لماذا نُعمم وقائع محدودة ومحصورة، صدرت من قِبل (بعض) الغرب على (بعض) العرب أو المسلمين؛ فنجعلها عدوانا من الغرب (كل الغرب) على العرب/المسلمين (كل العرب/كل المسلمين)؛ مع أن توصيفها بالعدوانية توصيف منحاز ـ بالضرورة ـ من حيث هو حكم ذاتي؟
لا بد أن يكون التوصيف محايدا (أي مُفصّلا ومُحكّما بقرارات أممية، من مؤسسات أممية، تكون ذات طابع إجماعي أو شبه إجماعي، لا أن يكون صادرا عن مجرد إحساس ذاتي بمظلومية تمتد بطول تاريخ تخلفنا الفظيع)؛ كي يتسم بالحد لأدنى من الموضوعية التي ندّعيها لأنفسنا، ونتصور أننا ظفرنا بها لمجرد الادعاء.
إن ما نعانيه في علاقتنا الشائكة مع الغرب، ليس الغرب هو الطرف الفاعل فيها. نحن الأزمة، نحن من يصنعها ومن يقتات عليها، وهي أزمة مع الذات قبل أن تكون أزمة مع الآخر، إنها أزمة قارئ قبل أن تكون أزمة مقروء، إنها أزمة اللاوعي بالأزمة.
والبداية، بداية الإفاقة من هذا السبات، لا تكون إلا بطرح الأسئلة التي نطرحها على الآخر، أي أن البداية لا تكون إلا بمساءلة الذات.
ma573573@hotmail.com
1
حسام صالح
2016-08-05 11:34:26الجواب على "لماذا" المتكررة في المقال
هو لأن الغرب ينهبنا ولا يترك لنا غير الفتات وينهب سيادتنا ويبقي الفتات؛ وينهب استقلالنا ويترك الفتات … لماذا لا يشترون برميل النفط بـِ ٤٠٠ دولار لاتستغربون! فإنهم يبيعونه في بلادهم بنزيناً بـِ ٥٠٠ دولار ولكنهم لا يريدون لنا الخير
2
بسام النقيدان
2016-08-04 18:10:43الشكر وكل التقدير للكاتب والمفكر الأستاذ محمد وفي تقديري أنه حان الوقت لانشاء هيئة فكرية تعنى بهذا المقال لابراز القيمة الفكرية والتي يمكن بها القضاء على التطرف الفكري
3
بو محمدين -2
2016-08-04 17:22:43مقال جميل, بارك الله في جهودك.
سالت سابقا : هل لديكم كتب مطبوعة, وا جمعت مقالاتكم في كتاب.
دمت موفقا
4
مشكلتنا مع الغرب ان كثيراً منا يمقتونه بالرغم من انهم يعيشون على فضله من طب وعلم وتقنية ولا يستغنون عنها للحظة. الا انهم ظلوا مكبلين بأمجاد الماضي والتي لن تعود. لذا فهم يمقتونه وينقدونه لتغطية سوئاتهم عندما عجزوا عن اللحاق به. الغرب ذو وجهين: نير ومظلم.
5
zakirazmi
2016-08-04 13:42:34مقال رائع وواقعي كاتبه يستحق الشكر والتقدير على جرأته وتمكينه من إجراء تحليل محايد لما يمر به العالم الاسلامي والعربي من افتقار المناهج الفكرية السديدة. لقد أصبحنا أمة تبتعد كل البعد عن متطلبات الزمن وشعباً غير قادر على مواكبة الزمن. نحن نواجه الغرب اللذي يتسلح بأفكار نيرة بالتي صارت غير صالحة للزمن
6
انا ضد عداء الغرب او اي حضارة او اي دين او اي دوله طالما انهم لم يبدو عداوة لنا ...ولكن لماذا كل هذه السذاجة وعبادة الغرب ؟!
ماهو تفسيرك لاحتلال العراق وافغانستان ومايحصل الان في سوريا والعراق وليبيا واليمن ؟! أليس ذلك نتيجة الفوضى الخلاقة التي كانت تبشر بها كونداليزا رايس وزيرة خارجية بوش الابن ؟!
7
محمداحمد
2016-08-04 08:03:12(كل شىء تغير فينا ومن حولنا ، الااهم شيء فينا ..العقل العربى ان جاز توصيفه بهذا(العقل) لا يزال مراوحا بين الزمن الواقعى والوقائعى لحرب البسوس وداحس والغبراء وبين الزمن الفكرى لنقائض جرير والفرزدق (لا يزال (آليه غرائزيه )...)
8
محمداحمد
2016-08-04 07:55:03تاريخ الامه يحتاج الى كتابته من جديد بقلم واقعى صادق بعيد عن الزركشه والتطريز الذى يخفى الوقائع والخطوب ..وما أكثرها فى الامه..عد وأعلط..!
9
محمداحمد
2016-08-04 07:52:04* الفراغ العدمى * من قمم التعبيرات الصارخه..المتميزه..
10
محمداحمد
2016-08-04 07:49:42( لم يكن فى استقبال- الغرب الحضارى- الا قطعان المماليك يحملون الفراغ العدمى وبقا أسلحه صدئه توالاثوها من عصور الظلام،السيف والرمح والساطور والخنجر المعكوف ليواجهوا بها المدافع النابولينيه وكأنهم ايستيقضوا بعد اربعه قرون من معركه المنصور ليواجهو لوبس التاسع(الصليبى
11
محمداحمد
2016-08-04 07:43:29الامه غيبها التاريخ لأن افرادها فرشوا بساط المدح والثناء وشيئا من البكائيات وظنوا انهم يغطون الحقائق ويطمسونها وتناسوا ان الايام كفيله فى نزع الاغطيه مهما كانت سماكتها..!
12
محمداحمد
2016-08-04 07:37:43ان يكتب تاريخ أمه طالها النسيان فهذا بحد ذاته انجاز ، لكن ان يكتب -بصدق و بمهنيه تاريخيه- عن ماكان حالها البائس بين الامم ..فهذا هو الابداع بعينه الذى اتحفنا به الاستاذ الكريم.
13
محمداحمد
2016-08-04 07:32:56(حضر الغرب الحضارى فى واقعنا كواقعه من اكبر متغيرات التاريخ البشريه ايجابيه منذ بدأ الانسانيه تكتب سيره وجودها، حضر الغرب فى واقعنا منذ قرنين ليفتح وعينا على زمن جديد للتو منذ بدأ يتحلق ويتألق..)
14
محمداحمد
2016-08-04 06:19:14( نحن نمارس الارتياب بالغرب بتلقائيه غريبه، وكأن الارتياب طبيعه فينا ولا نسأل بجديه؛ لماذا نحن مرتابون بكل ما يأتى من الغرب..)
15
محمداحمد
2016-08-04 06:15:04( ..حتى عندما لا يوجد أى صليب واقعى ، لا شكلا ولا مضمونا فلابد ان نتوهمه..لأن وجود الصليب فى سياق هذا الوعى المحدود -شرط من شروط التفسير بالمقلوب- اى تفسير يفترض لأن النتائج هكذا تريد..)
16
محمداحمد
2016-08-04 06:06:29( للاسف كل شىء يتغير ويتبدل ويتطور الا العقل العربى/الاسلامى الذى لا يزال يتعاطى مع الغرب بثنائيه الهلال والصليب...)
17
محمداحمد
2016-08-04 06:02:37(... وعينا مازال وعيا محدودا تقف حدوده القرائيه/ برمجته عند ما يسمح به معطيات الواقع المعرفى قبل سته قرون...)
18
محمداحمد
2016-08-04 05:56:20( الوعى الكهفى).... يكاد القارىء يجزم ان هذا (المفهوم) الواقعى من نتاج تعبيرات الاستاذ المفكر المبدع.
19
محمداحمد
2016-08-04 05:53:10( ...كلها حروب صليبيه كما يقرؤها وعينا الكهفى الذى مازالت برمجته قروسطيه بحيث لا لا يطيق التفكير خارج الخرائط الادراكيه المتواضعه للقرون الوسطى..)
20
محمداحمد
2016-08-04 05:46:16فى كل المقالات المبدعه يضع القارىء خطوط متكرره تحت الاقوال الفائقه الابداع...لكن مقالات الاستاذ الكريم الرائعه..تلزم وضع خطوط ثنائيه تحت كل كلمات المقال من اوله الى نهايته، المسأله الاخرى انه لا يكفى وضع خطين فقط بل خطوط وخطوط...فكل كلمه فيه تغوص فى الاعماق..
21
المشكلة لا تكمن بالغرب ، وإنما الأدهى مقلدو خطى الغرب