أكثر من عشر سنوات قضيتها بين زوايا مسجد الشيخ فرج العمران، بمدينة القطيف، شرق السعودية، والذي استهدفته المجموعات التكفيرية، في الليالي الأخيرة من شهر رمضان.
مثل أي طفل صغير، ومن ثم فتى يافع، كنت أذهب إلى المسجد هناك، للصلاة جماعة، وحضور الخطب والدروس الدينية. فالمسجد الذي يقع وسط حي قديم محاط بالبيوت من كل جهة، كان مقصدا للمؤمنين من مختلف أنحاء مدينة القطيف وقراها المتناثرة.
الشيخ حسين العمران، الذي ورث الزعامة الدينية عن والده الراحل الشيخ فرج العمران، بعد عودته من دراسة العلوم الدينية في حوزتي قم والنجف، كان يؤم المصلين الذين تكتظ بهم الأزقة المجاورة للمسجد، وتحديدا يوم الجمعة. وهو الذي كانت له شعبية ممتدة، طالت الطبقات الغنية والفقيرة، والمتعلمة والأخرى ذات التعليم العادي. وهو بشكل أو بآخر يمثل صورة عن عمق القطيف المدينة، بتنوعاتها المختلفة، وكان في فترة من الفترات يوجه نقدا لاذعاً للتيارات الدينية الحركية، التي خرجت عن عباءة التدين الكلاسيكي.
كان الشيخ رغم مزاجه الحاد، عنصر جذب لنا نحن الذين كنا نحضر دروسه الفقهية اليومية بعد صلاة العشاء، والدرس العقائدي الأسبوعي. وكان بما يسرده من تفصيل شرعي، ويرويه من تاريخ عن الرسول الأكرم وأئمة آل البيت، والمراجع الكبار.. كان يعمق فينا البنية العلمية الرصينة، التي شكلت اللبنات الصلبة للتشيع كفكر وعقيدة. وهو إذ كان يرسم معالم هذه الهوية ويعمقها يوما بعد آخر، كان يقوم في طرحه على الإثبات لا النفي. بمعنى أنه كان يشيد بنيانه على إثبات الهوية الذاتية، لا نقض هوية المختلف أو الهجوم عليه وازدرائه. بحيث لم نكن نسمع منه أي هجوم تجاه المسلمين السنة، أو تكفير لهم، أو تحذير منهم ومن التواصل معهم.
كان الشيخ العمران يمثل نموذجا لـ"الكلاسيكية الشيعية" التي تروم الحفاظ على العقيدة من جهة، وعلى سلامة المؤمنين من جهة أخرى. وهو في سعيه هذا كان حذرا جدا من الدخول في أتون "السياسة"، وكان يفر منها فرار الصحيحِ من الأجرب!. بل إنه كان لا يتطرق إلى أي موضوع سياسي، أو مشكلة ذات طابع إشكالي أمني، ويتلافى طرح أي موضوعات أو أفكار من شأنها أن تعرضه هو أو المصلين إلى الخطر. وهو ما جعله محل نقد لدى التيار الحركي الذي كان ينظر له بصفته رجل دين "رجعي"، غير مواكب للعصر!.
في هذا الوقت الذي ترتفع فيه أصوات الأصوليات المذهبية، يحمد للشيخ العمران أنه كان بعيدا عن التطرف في طرحه العقائدي. بل، بعيد عن الخرافة والغلو بصورته التي نشاهدها اليوم لدى عدد من الفضائيات التي تروج لسبات العقل، وتقوم على شتيمة الآخر وتحقيره.
إبان المرحلة الثانوية، بدأ التمايز بيننا وبين الشيخ حسين العمران حول كثير من القضايا الحياتية والفقهية والحركية. وشيئا فشيئا، اتسعت الهوة، وصرنا ندخل في نقاشات مطولة مع أتباعه الخُلص، وكنا نسعى لطرح أسئلة غير تقليدية عليه، رغم أننا واصلنا الصلاة معه، قبل أن نشيح بوجهنا عنه، ونذهب إلى خيارات أخرى، كنا نظنُ أنها أكثر وعيا وتقدما، قبل أن تبان نواقصها ونقع في أخطاء تجربتها، التي وعينا على أنها اجتهاد بشري، وليست جزءا من الدين.
الانتحاريون الذين استهدفوا مسجد "العمران"، وهلكوا قبل أن يصيبوا أحدا من المصلين، قابلهم الشيخ بثبات يُحمدُ عليه. فهو رغم وقوع الانفجار، لم يخف، وإنما واصل صلاته. وعندما عاد إلى منزله استقبل الناس. وإبان صلاة الفجر، أي بعيد الانفجار بساعات عاد ليؤم المصلين في المسجد، وواصل حتى نهاية شهر رمضان المبارك. وهو الثبات الذي يحتاجه المجتمع في مواجهته المصيرية مع المجموعات التكفيرية التي تستهدف زرع الفتنة، ونشر الفوضى، وتأليب أفراد المجتمع وطوائفه ضد بعضهم البعض.
مجموعات لم يعد أمامنا من خيار غير مواجهتها، بوضوح، وصبر، وشجاعة، وحكمة، وتحديد الأهداف بشكل لا لبس فيه، دون مجاملة لأي فرد أو جماعة. فالحرب ضد الإرهاب طويلة، وهي على جبهات متعددة، تبدأ بالفكر الذي أنتج التطرف، والدعاة المروجين للفتن، والممولين الذين يمدون بالمال والسلاح، وصولا إلى المنفذين والشبكات التي تجند الشباب.
1
محمد
2016-07-08 21:38:06شكرا لك يا حسن عن المقال الجميل ونسأل الله ان يحمي هذا الوطن من كيد الدواعش الارهابيين التكفيريين ونسأله ان لا يفرق وحدتنا الوطنية سنة وشيعة مسلمين وطنيين .
2
رياض السويكت
2016-07-08 18:56:05أحسنت أخي حسن..
توصيف جميل واع..
أسأل الله أن يحفظ البلاد والعباد من شر كل من يكفر أياً ممن يشهد الشهادتين كائناً من كان، ومن كل من يبرر لذلك أو يؤيده..
وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون والعاقبة للمتقين..
3
العقيم المدعوم
2016-07-08 17:05:48انها الطائفية بابشع صورها بدل ان تمتب عن استهادف المدينة المنورة والهجوم على البقيع
4
ابو أحمد العوامي
2016-07-08 16:47:21أحسنت على هذا المقال الجميل ويبقى ان نضع يدنا بكل شجاعة على الركائز الفكرية لهؤلاء الانتحاريين وكيف يستطيع هذا التنظيم المتوحش استقطاب المزيد من الأتباع كل يوم. لا بد من النقد الذاتي المخلص على أعلى المستويات بدلاً من رمي التهمة دائماً على جهات خارجية.
5
سلمان
2016-07-08 14:41:31حفظ الله بلادنا من كل سوء .. و العلامة العمران عنوان للعالم الديني التقي و الرصين
6
متعب الزبيلي
2016-07-08 13:35:25الرمي وصل مسجد خير من وطئت قدماه الارض عليه الصلاة والسلام ، ولا حرك فيك ذرة ، مفروض على الأقل تمنح المسجد النبوي في المقدمة شي من ضجر وأنك متضايق
7
محمداحمد
2016-07-08 11:57:55برع الاستاذ الكريم فى سرد رحله فتيه الحى العتيق، من نشأتهم ومواظبتهم فى الحضور اليومى مع القوم، حتى بلوغ المعرفه وبدايه الاسئله التى لم يجدوا لها جوابا،وحيث الجدل التاريخى،لكن تضل تلك الايام الخوالى برغم كل شىءذكرى حلوه،ولم يدر فى خلد الفتيه ان يوما سيأتى بعقول واجساد مفخخه.
8
محمداحمد
2016-07-08 11:53:05برع الاستاذ الكريم فى سرد رحله فتيه الحى العتيق، من نشأتهم ومواظبتهم فى الحضور اليومى مع القوم، حتى بلوغ المعرفه وبدايه الاسئله التى لم يجدوا لها جوابا،وحيث الجدل التاريخى،لكن تضل تلك الايام الخوالى برغم كل شىءذكرى حلوه،ولم يدر فى خلد الفتيه ان يوما سيأتى بعقول واجساد مفخخه.
9
محمداحمد
2016-07-08 10:49:39مع تكرار اعمال الوحشيه الارهابيه فى كل مكان ،فى مساجد لكل الطوائف ،فى المسجد النبوى، فى الاماكن العامه، والنمط الاخير فى داخل بيوتنا وداخل العائله وفى الامومه الطاهره،لنتوقف عن التحليل، فقد أطالت الامه فى التحليلات، ولتبدأ الاسئله:من هم ؟ومن اين خرجوا؟ من يدعمهم ويناصرهم؟