الجاحظ قال عبارة مازلنا نتدولها، إن الأفكار ملقاة على قارعة الطريق والكاتب الفذ هو الذي يعرف كيف يأخذ هذه الأفكار ويكتبها قصصاً أو مقالات. وها نحن نرى الكثير من الكتاب كيف يأخذون الفكرة ويذهبون بها بعيداً فيبلورونها ومن ثم تخرج للناس لتكون عبارة عن أشياء ثمينة يتداولونها فيما بينهم.

كل الحكايات والإبداع الذي وصلنا بهذه الطريقة فالأصل هي الفكرة، تماماً كما يصنع الخزاف من التراب أشياء جميلة.

هذا تمهيد لما سأحكيه الآن، وهي حكايات طريفة وقديمة من أيام صغري، حكايات من عمق العراق حيث الأهوار وحيث هناك نبات البردى خاص يخرج منه شيء كالطحين لونه أصفر وطعمه حلو، ورائحته زكية نتسابق نحن الصغار عليه له موسم خاص تأخذه النساء ويقمن بطبخه على البخار ومن ثم يجمد فيبرد ويكسرنه ويكون بضاعة قابلة للمقايضة.

تأتي النساء من الأهوار زرافات يسرن على أقدامهن يحملن البضاعة ويتفرقن في المدن وهن ينادين على البضاعة، البضاعة بحق لذيذة نتسابق عليها ونجر أولئك السيدات لبيوتنا حيث يتساومن مع أمهاتنا على الكمية التي عادة يقايضنها ببعض ملابسنا القديمة.

(الخريط) لذيذ جداً، ونشتهيه دائماً ولست أدري هل هو قانون الندرة أم حقاً هو لذيذ كل هذه اللذة. وعلى كل جيلنا الذي عرفه كما عرف الطيبات فيما بعد لا ندري هل سيكون حلواً لنا أيضاً. يقال إن له مهاماً طبية أيضاً منها علاج القولون والمعدة كما هو علاج سريع للجروح.

قلت تأتي (أمهات الخريط) هكذا كنا نطلق عليهن، زرافات ويتفرقن في الحواري، والصغار يجرجرونهن للمنازل. لباسهن بسيط وأراه جميلاً، عباية بمحزم بالوسط ويغطي الشعر طرحة كبيرة وفي قمة الرأس هناك ربطة سوداء كبيرة لا يميز أحداهن الأخرى أي شيء.

المهم موسم الخريط عادة في الربيع يعني سعادة لنا نحن الصغار، وقد نتبعهن من مكان لآخر. لست وحدي التي أحضرت أجمل ملابسها ولا أثقل الملابس الشتوية كي تحصل على مزيد من حلوى الخريط.

من الحكايات الجميلة قد حدث ذات مرة أن أمهات الخريط قد أضطررن لترك إحداهن في أحد المنازل النجدية في الزبير، إذ فاجأها المخاض في مغرب ذلك اليوم ولم تستطع اللحاق بهن، ولكنها لقيت كل رعاية من أهل المنزل وحظيت بعشاء دسم كما لقي صغيرها عناية فائقة ودفئاً جميلاً وحملت بهدايا لها وللصغير..

في الصباح الباكر حضرت أثنتان من ربعها وصحبنها للأهوار، وما برحت تذكر ذلك للعائلة النجدية وتحضر لهم أجمل أنواع الخريط.

تلك الأشياء التي نتذكرها من الصغر كحلوى التمر السكري المجفف والكليجة اللذيذة، لم تعد للأطفال ذكرى جميلة تسجل في عقول الصغار، تغيرت اهتماماتهم وأصبحت الألعاب الإلكترونية تأخذ كل أوقاتهم ولم يعرفوا موسمية او غيرها ولم يعرفوا فقراء وقد لا يعود البعض للنبش في الأفكار التي يقول عنها إمام السرد الجاحظ (مطروحة في الطرقات والذكي من يتولاها برعايته).

shalshamlan@hotmail.com