في حياته تراوحت مواقف النقاد من الشاعر "نزار قباني" بين المديح والهجاء، فقد كان هؤلاء إما معه وإما ضده، وبعد رحيله طغى الرثاء والتأبين على مقالات هؤلاء النقاد وقلما ظفر القارئ بدراسة ذات شأن انصبت على مجمل تجربته الشعرية وما الذي أداه للشعر العربي بعيداً عن المشاعر الشخصية لمعرفة ما الذي يبقى من "نزار قباني" للتاريخ بعيداً عن الصخب والضوضاء اللذين نادراً ما انفصلا عن الشاعر وشعره على مدار نصف قرن تقريباً، ولكن السنوات الأخيرة أذنت بظهور مواقف من الشاعر لا تقع في أبواب المدح أو الهجاء أو الرثاء، وإنما في باب آخره هو باب النقد الصرف، ولا مانع في هذا الباب من أن يتخذ الناقد الموقف الذي يشاء من تجربة شعرية أو أدبية ما، إذ يكفي أن يكون حريصا على المنهجية والموضوعية والإنصاف وعدم الانحياز المسبق.

ويبدو أنّ النقاد المصريين نحوا هذا المنحى في بعض ما كتبوا عن "نزار قباني" في السنوات الأخيرة فها هو "أحمد عبدالمعطي حجازي" وهو ناقد وشاعر ومن رواد حركة الشعر الحديث في مصر يميز بين أمرين لا ينبغي الخلط بينهما: نزار الأسطورة ونزار الشعر الأول، هو في الحقيقة مصدر الهستيريا العاطفية التي أحاطت برحيل شاعر لا شك في موهبته وتبريزه، وأسطورة نزار تضرب بجذورها في أسباب اجتماعية وشخصية معا، أما الثاني فهو في أحد جوانبه شاعر الحب الذي تجرأ على محرمات المجتمع العربي التقليدي، وكثيرًا ما يشبهه النقاد عن صح أو عن خطأ بـ"عمر بن أبي ربيعة" دون أن ينتبهوا إلى فارق جوهري بينهما وهو أن عمر كان يكتب عن مغامرات خاضها أو عاشها بالفعل، في حين أنّ مغامرات نزار في شعره هي مغامرات على الورق أو من المخيلة؛ لأنه في حياته الخاصة كان -كما تقول ابنته هدباء-: "بيتوتياً عفيفاً، يؤوي إلى فراشه عندما يأتي المساء" كما يغني محمد عبدالوهاب، فهو يتحدث والحالة هذه عن مغامرات الآخرين لا غير، ولكنه يبهج الغواني بمزاعم لا حدود لها عندما ينظم لهن قلائد من الثناء تطوف بكل أعضائهن.

كما يتحدث نزار في جانب آخر حديثا سياسيا تحريضيا في الغالب يتقمص شاعر القبيلة القديم الذي يتغنى بالثورة الفلسطينية، ويكتب هوامشه على دفتر النكسة، فتسري في العالم العربي سريان الحريق، وكأنه معلق سياسي من طراز "أحمد سعيد" في إذاعة صوت العرب، وبعد ذلك يتحدث عن "العنتريات التي ما قتلت ذبابة" دع عنك التناقض في موقف شاعر ينعي علي قومه "مفردات العهر والشتيمة" بينما يكتب في موضع آخر عن "يائيل دايان".

ويلتقط ناقد مصري آخر هو "د. ماهر شفيق فريد" حكاية "نزار الأسطورة ونزار الشعر" ليتابع في كتابه "الواقع والأسطورة دراسات في الشعر العربي المعاصر" هذا المنحى في النظر فيرى أنّ "نزار قباني" مركب من الأسطورة والشعر أما الأسطورة فباقية وأما الشعر فزائل أو اغلبه كذلك.

"واحر قلباه ممن قلبه شبم" يقول المعري، ويبدو "ماهر شفيق فريد" استنادا إلى حكمه الفظ هذا ناقدا غليظ القلب صداعا إذ كيف يعلن دون أن يرف له جفن وفاة "عمر بن أبي ربيعة العصر" و"شاعر النساء" بل "مؤسس جمهوريتهن" والعبارة الأخيرة هي له!.. الناقد الأكاديمي المصري لا يطلق حكمه جزافاً، بل يؤسسه على حيثيات كثيرة بداية هو لا ينكر أنّ لنزار حفنة من القصائد التي ترقى إلى مرتبة الشعر الجيد، ولكنها بالغة القلة في سياق إنتاجه الغزير، بل الأغزر كثيراً مما ينبغي، هناك مثلا قصيدته العظيمة "القصيدة الزرقاء" التي لو نسبت إلى شاعر رمزي عظيم كـ"مالارميه" ما شانته، لكن قصائده القليلة العظيمة ليست هي قصائده المقروءة، وإنما تستخفي على استحياء وسط قطع أكثر إثارة تخاطب غرائز المراهقين، والعواطف السياسية، قصائده السياسية آنية بالمعنى السيئ للكلمة بنت اللحظة، ولا تدوم أكثر من دوام اللحظة، تخاطب رصيداً وجدانياً مخزوناً لدى الجماهير، ولا تصنع من قلب ذاتها إضافةً إلى الوجدان العام.

ويرى الناقد أن الأصوات الرخيمة التي شدت بقصائد "نزار" كـ"محمد عبدالوهاب"، "عبدالحليم حافظ"، "نجاة الصغيرة" كان لها أثر كبير في توطيد دعائم شهرته، ونشر اسمه بين طوائف من المتلقين، التي ما كانت لولا ذلك لتفكر في أن تفتح له ديواناً واحداً، فهو والحالة هذه شاعر الحظ السعيد، رضيت عنه الأقدار رغم مآسيه الشخصية، ليقف "ماهر شفيق" وقفة خاصة عند قصيدة نزار الزرقاء التي لا يجد فيها عيبا واحدا ويوردها بالحرف الواحد:

في رفأ عينيك الأزرق

أمطار من ضوء مسموع

وشموس دائخة وقلوع

ترسم رحلتها للمطلق

في مرفأ عينيك الأزرق

شباك بحري مفتوح

وطيور في الأبعاد تلوح

تبحث عن جزر لم تخلق

في مرفأ عينيك الأزرق

يتساقط ثلج في تموز

ومراكب ملأى بالفيروز

أغرقت البحر ولم تغرق

في مرفأ عينيك الأزرق

اركض كالطفل على الصخر

استنشق رائحة البحر

وأعود كعصفور مرهق

في مرفأ عينيك الأزرق

احلم بالبحر وبالإبحار

وأصيد ملايين الأقمار

وعقود اللؤلؤ والزنبق

في مرفأ عينيك الأزرق

تتكلم في الليل الأحجار

في دفتر عينيك المغلق

من خبأ آلاف الأشعار؟

لو أني لو أني بحار

لو احد يمنحني زورق

أرسيت قلوعي كل نهار

في مرفأ عينيك الأزرق!

القصيدة التي أشاد بها "ماهر شفيق فريد" جميلة فعلاً وكأنها ليست لنزار قباني! لأنها تختلف تماما عن السياق العام لشعره الذي عود القارئ عليه، والقارئ إذا لم يعرف مسبقا أنها لنزار فسيظنها لسواه أنها فلتة نزارية بالفعل، والمرء عندما يقرؤها يعتريه دوار حلو من هذا الغنى الباذخ في النخيل، والصور الشعرية المعبرة، الموغلة في الإيحاء، حيث لا توحد كلمة واحدة إلا ولها وظيفة أن الشعر هو فن الإيجاز وأي ثرثرة تفسد أثره الكلي.

ولكن الناقد المصري لا ينظر في قصيدة واحدة لنزار وإنما ينظر في مجمل شعره، وهنا تبدأ متاعبه مع جمهور هائج اعتاد على التصفيق الحاد لشاعره المفضل ولقصائد بلا حصر لهذا الشاعر، ليس من بينها "القصيدة الزرقاء"، فهذا الناقد وبعد جولة في مجمل شعر نزار ينتهي إلى حكم قاس لعله الأقسى الذي أصدره ناقد بحق شاعر مرهف، اعتاد على الدلال من نقاده ومن المعجبين والمعجبات على الخصوص، فقد ورد في حكمه وبالحرف الواحد:

"حين يوضع شعر نزار في نيران النقد العلمي الصارم؛ سيتبين أنّ اغلبه متواضع القيمة، أوله كآخره، بلا نمو يذكر، لا مكان له في ديوان الشعر الخالد، باستثناء أربع أو خمس قصائد، لن يدوم دوام السياب، ولا سواه من الشعراء العرب الكبار في القرن العشرين، فهو لا يملك العمق الفكري ولا البراعة التقنية، ولا القدرة على التطور التي تميز عمل الشعراء الكبار الخالدين، وراء بريق ألفاظه ثمة افتقار إلى المعنى أو هو معنى بالغ السطحية، وركاكة فكرية -إن جاز التعبير- قل لي بربك أي معنى لقوله: "امرأة على محيط خصرها تجتمع العصور"؟ وماذا عن"وفي الزوايا بقايا من بقاياه" وإذا كان لي أن استعير مصطلح عبدالمعطي حجازي لقلت: لقد توقف منذ زمن بعيد كشاعر، واستمر أسطورة"

قد يكون حكم "ماهر شفيق فريد" قاسياً أو صادماً، ولكنه حكم نقدي قابل بالطبع لشتى طرق المراجعة النقدية؛ مما هو معمول به في كل مكان عادة.

image 0

نزار قباني

image 0