يَحتلُّ الدين في كل أمة مُتَديّنة أعلى درجات القداسة الطهرانية التي تفترض أسمى صور النزاهة لكل من ارتبط به من قريب أو بعيد. إنها قداسة تفترض نزاهة تتجرد من كل علائق المادي الشخصي؛ بغية الصالح العام، لا في سياق توفير مُّقومات الحياة السعيدة في هذه الدنيا فحسب، وإنما في سياق توفير كل ما من شأنه أن يخلق الأمل في المخيال العام للملايين التي تهفو إلى السعادة في الدار الآخرة أيضا. وهذا يعني أن التجرد من الغرض الشخصي، ومن الأطماع الذاتية الخاصة، مادية كانت أو معنوية، شرط أولي؛ من جملة الشروط التي يجب توفرها في كل من يريد التحدّث بلسان الدين. وما لم يتحقق هذا الشرط الأولي؛ فالمتحدث بلسان الدين - أيا كان - لا يخدم الدين، ولا يبحث عن الصالح الدنيوي العام بالدين، وإنما يستخدم الدين كوسيلة، يستخدم الدين إلى درجة تشويه وجهه الجميل.

سيستثمر الانغلاقي المتطرف أقوى سلاح لديه في سبيل تهميش، بل وإقصاء الطرف الذي يهدد – بانفتاحه – مكتسابته: مكتسابته الدنيوية؛ لا الدينية، بطبيعة الحال. سيحاول هذا المتطرف الانغلاقي أن يجعل من الدين أداة يحمي بها مصالحه، التي قد تتمثل في مصالح الحزب أو التيار الذي ينتمي إليه

إن هذا التجرد من الشخصي الدنيوي في السياق الديني هو الواقع المفترض، هو الواقع المأمول، ولكن لا يعني هذا أنه واقع قائم بالفعل.

الواقع عكس ذلك؛ إذ على الرغم من أن أسوأ وأبشع وأرذل أنواع الاحتيال هو ما يتم باسم الدين (وذلك عندما يمارس المحتال توظيف أقدس مقدس: "الدين" في أقذر عملية: "الاحتيال")، إلا أن هذا النوع من الاحتيال - رغم سوئه وبشاعته وافتضاحه - كان هو الأكثر انتشارا في المجتمعات المتدينة، سواء في القديم أو في الحديث.

الطموح الشخصي، والتوق إلى تحقيق الأفضل للذات، فضلا عن كونه فعلا غرائزيا طبيعيا، هو شعور مشروع، وعمل مشروع أيضا.

الإنسان منذ لحظة الولادة يحاول الاستحواذ على ما تقع عليه حواسه، ابتداء من محاولته الاستحواذ على أمه بوصفها الكائن الأقرب إليه، يحاول الاستحواذ على لبنها وجسدها وحنانها ورعايتها، ويستمر طامحا طامعا إلى آخر يوم في حياته، حتى إنه ليطمع في أجمل مِيْتةٍ، وأبهى جنازة، وأرحب قبر، وأفضل ذكرى يُردّدها المُشيِّعون!.

إذن، لا غضاضة في الطموح الشخصي مهما بدا جامحا؛ إذا ما استخدم صاحبه السياق الدنيوي لتحقيقه؛ أي إذا ما وَظّف الوسائل المشروعة من أجل الظفر بمنصب، أو مال، أو شهرة..إلخ من الأغراض.. فنيل المنصب بالمؤهلات المعتبرة في سياقه، وبالجهد المشهود، والإنتاج الملموس، حق مشروع، بل هو فضيلة تُثري القيمة الاعتبارية لصاحبها. كذلك تحقيق الثراء من خلال الجهد المشروع، بلا سرقات، ولا اختلاسات، ولا استغلال مناصب، هو حق مشروع، وفضيلة تُثري القيمة الاعتبارية لصاحبها أيضا. كذلك الأمر في مجال العلم والفن والأدب والإعلام والتشييد والبناء والصناعة..إلخ.

إن طلب الأغراض الدنيوية المشروعة بوسائل نزيهة ليس أمرا مشروعا فحسب، بل هو مطلوب، إذ هو داعم لحركة النمو العام التي يستفيد منها الجميع في النهاية. في المقابل، طلبها بوسائل مزيفة جريمة تستحق العقاب، فكيف إذا كان هذا التزييف يتم باسم الدين وبلغة الدين؟!

الجريمة هنا مضاعفة بلا ريب، إذ هي لا تضر بالغرض المطلوب، ولا بالمجموع الإنساني المخدوع فحسب، وإنما بالدين الناظم لعالم القداسة أيضا، أي بالدين الذي يُفترض في المتحدث بلسانه التحلي بالنزاهة والزهد والإيثار والتوفّر على أجمل الأخلاق.

من المعلوم أن العاطفة في أي مجتمع غير عقلاني هي التي تُهيمن على وعي الجماهير، ومن ثم على سلوكياتهم القولية والعملية، بها ينفعلون، وبطاقتها يفعلون. البدائيون الذين لم ينخرطوا في الفعاليات العقلية عاطفيون ساذجون، يمنحون الثقة للظواهر، وينقادون – بثقة عمياء - للشعارات، ولهذا، فهم يُحسنون الظن – بسذاجة بالغة - في كل الذين يتحدثون بلغة الدين، حيث يرونهم مُنَزّهين عن الأهواء الخاصة، ومتجردين من الأغراض الدنيوية، بينما هم – كغيرهم - بشر طامحون في أحسن الأحوال، وبعضهم طامعون كأشد ما يكون الطمع في كل ما يسلب لبّ الإنسان الدنيوي الغارق في مجاله الدنيوي.

وبما أن الصراع وإن بدا دينيا عند طرف من الأطراف، لا يتجرد من الدنيوي بحال، فإن استخدام السلاح الأقوى اجتماعيا سيكون من نصيب الذي يتمسح به على مستوى الخطاب المعلن.

سيستثمر الانغلاقي المتطرف أقوى سلاح لديه في سبيل تهميش، بل وإقصاء الطرف الذي يهدد – بانفتاحه – مكتسابته: مكتسابته الدنيوية؛ لا الدينية، بطبيعة الحال. سيحاول هذا المتطرف الانغلاقي أن يجعل من الدين أداة يحمي بها مصالحه، التي قد تتمثل في مصالح الحزب أو التيار الذي ينتمي إليه. وفي هذا السبيل، سيتم توظيف المَرْمُوزات الدينية؛ حتى ولو باختراق السقف الديني والأخلاقي.

لقد رأينا كيف أن بعضهم حاول أن يضع له صوتا في الساحة الدينية/الاجتماعية بالمشاكسة والاعتراض على القرارات الحكومية ذات الطابع الانفتاحي؛ ليصنع لنفسه زعامة جماهيرية تُضاف إلى منصبه الحقيقي أو الرمزي. وآخرون أرادوا احتلال هذه المكانة ذات البعد الجماهيري بافتعال معارك مع كل جديد من الأفكار والفعاليات، باسم الدين تارة، وباسم الذود عن الأخلاق تارة أخرى. وفي كل مرة، يتوسلون إلى ذلك بوصم مخالفيهم بمخالفة صريح الدين، أو بتدنيس حرم الأخلاق، زاعمين أنهم يعكسون جانب الأصالة في الأمة، وأن مخالفيهم يعكسون حالة التغريب؛ حيث الغزو والاختراق.

عمد المتطرفون الانغلاقيون إلى ربط (التغريب) بمفاهيم وتصورات سلبية؛ كي يستطيعوا توظيف الاتهام به كأداة لإقصاء الخصوم. وإذا كان التغريب يعني التماهي مع الغرب؛ فإن له – بلا شك – جانبين: جانب إيجابي، حيث التماهي مع الغرب في مسيرة التطور الحضاري التي نقلت الغرب – ومن ورائه العالم - من حال إلى حال، وجانب سلبي، حيث التماهي مع الإفراز السلبي الهامشي لهذه المسيرة الحضارية.

الجانب الأول، هو الخط العام الذي يحكم متن المسيرة الحضارية، والجانب الثاني هو الهوامش التي تقتات على مرونة القوانين العامة لحركة التطور المستمر في هذه الحضارة. فالانحلال الأخلاقي مثلا لا يعكس الحرية كقيمة عليا حكمت مسار التطور، وإنما هو إفراز هامشي نتج عن مبدأ التحرر العام. ومع هذا، يُصرّ المتطرفون الانغلاقيون على تعميد هذا الهامش السلبي بوصفه الوجه الأوحد للحضارة الغربية التي يتفيأ العالم ظلالها، ويسهم في تنميتها وتغذيتها بالإبداع المستمر؛ ليجعلوا من الانفتاح على هذه الحضارة الإنسانية مجرد انفتاح على "حرية الانحلال".

استطاع هؤلاء المتطرفون الانعلاقيون ربط التغريب بالمفهوم السلبي في مستوى الوعي الجماهيري العام، مستثمرين حالة الجهل الجماهيري الواسع من جهة، وحالة الثقة بمن يرفع الشعار الديني/الأخلاقي من جهة أخرى. وبهذا، أصبح الغرب في الوعي الجماهيري ليس غرب الحضارة والصناعة والحرية والحقوق.. إلخ من العناصر الإيجابية، بل هو غرب الانحلال والعُري والعلاقات الشاذة.. إلخ من العناصر السلبية؛ ليجعلوا من كل مؤيد للانفتاح على حضارة الغرب مؤيدا للتغريب السلبي ضرورة؛ وليجعلوا الخيار خيارا إقصائيا مُفتعلا في ثانوية مانوية، أي بين (انغلاق أخلاقي)، و(انفتاح انحلالي).

وما دام أن هذا الخيار يمارس في مجتمع محافظ أشد ما تكون المحافظة، فلا ريب أن أي إنسان فيه سيختار – بدون أي تردد أو حتى تفكير – الانغلاق الأخلاقي، ولن يخطر بباله أن ثمة خيارا آخر يعتمد النسبية في المسائل المركبة، ويصنع ما يمكن تسميته: (الانفتاح الأخلاقي).

لم ولن يتحدث الانغلاقي المتطرف المتمثل في الأصولي الحركي عن (الانفتاح الأخلاقي)، هذا الانفتاح الذي سيكون ممكنا؛ إذا ما تم تحرير مصطلح الأخلاق من احتكاره في العلاقات الجنسية؛ دون غيرها من مقومات المنظومة الأخلاقية التي هي أشمل وأكمل. لم ولن يفعل ذلك؛ لأن مثل هذا الحديث سيُجرّده من سلاحه الفعال الذي طالما مارسه في تشويه صورة خصومه في أذهان الجماهير البائسة التي يهيمن على وعيها بشتى أساليب الخداع الإيديولوجي. لم ولن يفعل ذلك لأنه سيخسر معظم هذه الجماهيرية، فلو خُيّر عموم الناس بين: (الانغلاق الأخلاقي) و(الانفتاح الأخلاقي)؛ لاختاروا – وبإرادة واعية - (الانفتاح الأخلاقي)؛ ولهجروا – إلى الأبد – سدنة خطاب التزمت والانغلاق.

هكذا يستطيع المتطرف تمرير هوسه الانغلاقي بكل يسر وسهولة على جماهير الدهماء؛ باسم الدين وتحت شعار حماية الأخلاق. لن يستطيع تمريره إلا بهذا؛ لأن الجماهير لا تقدس شيئا كما تُقدّس هذا وذاك.

إن أخطر الرجال، وأخطر الأقوال، يمكن استيعابهما استيعابا جماهيريا بمثل هذه الشعارات التي تأخذ بالقلوب والعقول. ستمنح الجماهير كل من يحدث بلسان الدين والأخلاق شيئا من قداستها على مستوى واعٍ أو غير واعٍ. لولا هذا التوظيف البراجماتي للمقدس؛ لظهر الإنسان الانغلاقي – كما في حديثه الغاضب عن وسائل الإعلام الانفتاحية/التقدمية - مُعاديا لكل ما هو تقدمي وانفتاحي وتحرري، معاديا للحرية، معاديا لإنصاف المرأة، برفض حقوقها الأولية، وبرفض مساواتها بالرجل، معاديا للديمقراطية، معاديا للانفتاح التَّـثاقفي بكل صوره. وحينئذٍ، لن يجد إنسانا عاقلا واعيا بإنسانيته يرضى به ولا بإيديولوجيته الظلامية. لهذا، يعيب الانفتاح الإيجابي الحقيقي بربطه بالانفتاح السلبي المتوهم؛ ليصبح (التقدمي/التغريبي)، هو (الانحلالي/التغريبي)، ويظهر دعاة التسامح والمحبة والخير والحرية والسلام، وكأنهم هم الخطر الداهم، بينما دعاة التزمت والانغلاق والتكفير والإرهاب، يظهرون وكـأنهم صمام الأمان!.

أخيراً، يقول البحتري:

إذا مَحاسني اللاتي أُدِلُّ بهــا

كانت ذنوبي فقُل لي كيف أعتذر؟!