إذا سئل باحث يوناني مَن أهم الشعراء اليونانيين في العصر الحديث اجاب انه قسطنطين كافافيس وهو شاعر يوناني عاش اكثر عمره في مدينة الاسكندرية زمن الاستعمار البريطاني لمصر ولو سئل هذا الباحث عن اهم قصائد هذا الشاعر بنظره لما تردد في القول انها قصيدة في انتظار البرابرة وهي قصيدة عجيبة غريبة ذهب النقاد مذاهب شتى في تحليلها وتفسيرها وفي من عم البرابرة الذين عناهم كافافيس فيها وكان كافافيس نفسه يصمت او يبتسم عندما يسأل عمن قصد بهؤلاء البرابرة وقبل التعرض لكل ذلك يحسن ايراد نص القصيدة:

في انتظار البرابرة

ما الذي تنتظره في السوق محتشدين

ان البرابرة يصلون اليوم..

وفي مجلس الشيوخ لماذا هذا الإعراض من العمل؟ لماذا جلس الشيوخ لا يسنون التشريعات؟

لان البرابرة يصلون اليوم وما الجدوى من ان يسن الشيوخ التشريعات ما دام البرابرة عندما يحضرون سيسنون هم التشريعات؟

لماذا صحا امبراطورنا مبكرا هذا الصباح وجلس عند البوابة الكبيرة في المدينة مرتديا تاجه وزيه الرسمي؟

لان البرابرة يصلون اليوم والامبراطور في الانتظار ليستقبل رئيسهم لي واعد الامبراطور العدة كي يمنحه شهادة فخرية يضفي عليه فيها رتبا والقابا.

لماذا خرج قنصلانا والحكام اليوم في مسوحهم الحمراء الموشاة؟ لماذا لبسوا اساور ذات جواهر قرمزية وخواتم زمردية براقة؟ لماذا يمسكون اليوم عصيا ثمينة مزينة بالذهب والفضة؟

لان البرابرة يصلون اليوم ومثل هذه الاشياء تبهر البرابرة لماذا لا يجيء الخطباء المفوهون مثل كل يوم ليلقوا خطبهم وليقولوا ما الغوا ان يتشوقوا به؟

لأن البرابرة يصلون اليوم وهم يملون الخطب وتضجرهم البلاغة.

لماذا يبدأ فجأة هذا الانزعاج وهذا القلق ويرتسم الجد على الوجوه؟ لماذا تقفز الشوارع والميادين بسرعة ويعود الجميع الى بيوتهم وقد استبد بهم التفكير؟

لان الليل قد اقبل ولم يحضر البرابرة ووصل البعض من الحدود وقالوا انه ما عاد للبرابرة وجود.

ماذا سنفعل الآن بلا برابرة؟ لقد كان هؤلاء الناس حلا من الحلول او ليس شر البلية حقا ان تكون الحلول لدى البرابرة؟

اختلف النقاد في من قصده كافافيس بالبرابرة ولكنهم اتفقوا على وجود شحنة من التوتر تشع منها قالوا ان ما يجعل النص الادبي قصيدة او غير قصيدة عملا ناجحا او خالدا هو انطواؤه على جذوة تومئ الى حلول او الى احتمالات حلول او الى تفسيرات لمشاكل واوضاع انسانية متجددة او متكررة ولعل هذا القول ينطبق كل الانطباق على قصيدة كافافيس هذه اذ انها كانت على الدوام قريبة من قلب كل من قرأها او مؤرقة لباله ذلك انها تشير الى حقيقة انسانية متجددة تتمثل في الانتظار المحيط فالانسانية ستظل على الدوام تنتظر الذي يأتي ولا يأتي تنتظر حلا او املا قد لا يقبله العقل بقدر ما نتوقعه العواطف والتخمينات والغرائز فالرومانسية اذن سيكون لها وجود دائم في الكيان البشري مهما بلغت الواقعية والعقلانية من شأن.

وقال نقاد اخرون ان كافافيس كانت تؤرقه فكرة المدينة ويعتبر ان المدينة الحديثة لم تمنح الانسان ما كان يتوق اليه من سعادة. وفي لحظة من لحظات تشاؤمه من مستقبل ساكن هذه المدينة كتب قصيدته هذه ابطال في انتظار البرابرة هم قاطنو مدينة عصرية جلسوا ينتظرون حلا.

مدينة عصرية اعيتها الحيل وغابت عن اهلها السعادة ولم يهبوا للدفاع عنها فهو غزاة متوقعون بل جلسوا ينتظرون حلا يأتي اليهم من ماض غابر هم متحضرون في حين ان الذين ينتظرونهم ليسلموا لهم قيادهم هم برابرة اي متخلفون عنهم وذلك باعتبار ان المدينة تعني التقدم وتفترض التطور ويدخل الليل على المدينة ولا يأتي احد بل يأتي من الحدود من يقول انه لم يعد هناك برابرة وبانزعاج وقلق وحيرة وحسرة يؤوب الجميع الى بيوتهم متسائلين والان ما هو الحل؟ لقد كان هؤلاء البرابرة على اي حال حلا من الحلول وقد اسقط في ايدي سكان تلك المدينة بمن فيهم امبراطورهم الذي ارتدى للمناسبة ابهى حلله وذهب الى البوابة ينتظر الغازي المنتظر ومعه مفاتيح المدينة متوقعا ان يكون لديه الدواء الشافي من المرض الذي يعانيه اهلها ولكن ما هو هذا المرض؟ يتضح لمن يقرأ قصيدة كافافيس بعناية انه الخواء فعلى الرغم من الحلي والخواتم والقلائد والعصي المطعمة بالذهب والفضة والالقاب ثمة حياة مقفرة جوفاء.

عندما تعلن القصيدة في نهايتها ان البرابرة ما عاد لهم وجود فهذه صيحة الشاعر الذي استبد به اليقين بأن الانسان المعاصر اصبح محاصرا بمدينة محكمة الاسار ولن يستطيع الافلات منها بحيث كلما حاول الاطلال خلف الاسوار سيخدع بالا شيء هناك وسيفد اليه صوت ربما كان كاذبا بانه ما عاد ثمة برابرة على الحدود او بعبارة اخرى لن يجد لمن لديه لمشكلات المدينة حلا من الحلول وكأن كافافيس يهيب بالناس الا يعودوا الى بيوتهم مخفقين عندما يأتي اليهم الرسل من الحدود لابلاغهم بالا احد هناك!

تبدأ القصيدة جادة في بدايتها ولكن السخرية تستعر فيها عندما نصل الى نهايتها: ماذا سنفعل الان بلا برابرة؟ لقد كان هؤلاء الناس حلا من الحلول ولكن من يكون هؤلاء البرابرة وكيف يكون لديهم لمشكلات المدينة او المدينة حلول؟

كان زمن كافافيس هو نهاية القرن التساع عشر وبداية القرن العشرين وقد تعرضت الاسكندرية مدينته لقصف وحشي من البحر قام به الاسطول البريطاني عام ١٨٨٢م وكان اهالي الاسكندرية يصفون الانكليز نتيجة لذلك بالبرابرة وكانوا يتصورون ان الانكليز قادمون الى مدينتهم لاعادة النظام الى ربوع مصر ولكن الحقيقة كانت بالطبع غير ذلك.

وثار جدل واسع حول المدينة التي يقصدها الشاعر في قصيدته قال بعضهم انها مدينة من مدن الرومان وقال اخرون انها مدينة بيزنطية وهناك من اعتبر ان هذه المدينة ابتدعها خيال الشاعر ولعلها تنطبق اكثر ما تنطبق على مدينة الاسكندرية وعلى ان البرابرة كانوا من ضربها من البحر.

ولعل اللحظة التي اختارها كافافيس في قصيدته هي اللحظة التي تواكب افول شمس حضارة ما لا شك ان كافافيس قرأ كتاب شبنجلر عن افول حضارة الغرب واقتنع بأن كل حضارة يعقبها اضمحلال وتدهور وكل رجولة تتبعها شيخوخة وقد عرف الشاعر كيف يلتقط هذه اللحظة وينتقيها من بين آلاف اللحظات التي يمضي عبرها التاريخ ولعله اراد ان يقول في هذه القصيدة اكثر من ترديد نظرية من نظريات فلسفة التاريخ وإلا لقال: هؤلاء الناس سوف يكونون هم الحل ولكنه قال انهم ربما كانوا مجرد حل من الحلول وليس الافول والاضملال اذن هما النتيجة الحتمية التي تنتظر كل حضارة.

يقول بعضهم انه كافافيس لم يكتب في انتظار البرابرة بأي وازع اجتماعي وان البرابرة لا يرمزون الا الى انفسهم ومن ثم لا يجوز ان نفهم البرابرة فهما رمزيا حصريا واذا كان كافافيس يستخدم في قصائد اخرى الكلمات في غير استخداماتها الحرفية فهو هنا في هذه القصيدة قد استخدم كلمة برابرة استخداما حرفيا وقد سئل مرة عمن قصد بالبرابرة فاجاب اجابة قاطعة بانه يعني بهم البرابرة دون سواهم او لا احد غيرهم ولكن ما القول في قول كافافيس نفسه ان ما منّتنا به المدينة انتظرناه بلا جدوى ومن العبث ان ننتظره فهو لن يتحقق!

على ان قصيدة في انتظار البرابرة التي الهمت الكثيرين وذهب الكثيرون في تفسيرها مذاهب شتى تعني الصورة التي احتوتها وهي تتسع لمعان على كل قارئ لها ان يبحث عنها ولا شك انه سوف تظل لكلمات مثل البرابرة وحلا من الحلول ابعاد تحلق بالقصيدة على الدوام فوق العصور والمجتمعات.