في سنواته الأخيرة فقد الأديب المصري الكبير عباس محمود العقاد نزعة مناصرة الجديد التي بدأ بها حياته الأدبية وتحوّل إلى محافظ عنيد يقف بوجه الحركات والتوجهات الجديدة في الأدب والفن دون أن يفقد الطرافة القديمة التي عُرف بها. وقد تجلى كل ذلك في وقوفه موقف الرافض لا للشعر الحديث وحده، بل للاتجاهات الجديدة في الفنون أيضاً إبان عمله في عضوية لجان المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب. فقد رفض مرة منح جائزة لتمثال قطّ من الفن التجريدي صنعه أحد المثّالين المصريين الموهوبين قائلاً لزملائه في المجلس المذكور: «هاتوا لي فأراً، فإن خاف من هذا التمثال سلّمت لكم بأنه عمل فني»..
وتفصيل ذلك أن الدولة المصرية أوكلت إلى لجنة أُنشئت في المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب دراسة ملفات الفنانين الذين يطلبون الحصول على منحة تفرّغ وبالتالي التوصية بهذه المنحة. كان العقاد عضواً في هذه اللجنة، كما كان كل الفنانين الذين طلبوا منحة التفرّغ من الآخذين باتجاهات الفن الحديث. وشاءت المصادفة أن تكون الأغلبية الغالبة من أعضاء اللجنة من المناصرين لتلك الاتجاهات. ومن طريف ما حدث، واللجنة مجتمعة لتجديد منحة التفرغ لمثال، أن قطعه المنحوتة قد نحتت كلها وفق مدارس الفن الحديثة التي تعنى «بالكتلة» لا «بالتفاصيل»، ومن بين القطع المعروضة تمثال لقط جاء على صورة اسطوانة طويلة هي البدن، وكرة عند أحد طرفيها هي الرأس، والأرجل وذيل على صورة الاسطوانة كذلك. لكن هذا النحت الكتلي قد أخرج قطعة فنية ممتازة. رفض العقاد هذا التمثال رفضاً صارماً، وشن حملة أقوى ما تكون الحملة المسلحة بالحجج. وكان مما قاله ساخراً: «هاتوا فأراً أمام هذ التمثال، فإن جرى هارباً عن ظن منه أنه أمام قط، وافقت على تفرّغ الفنان»..
هذا عن تمثال القط.. أما عن المصورين الذين أرادوا تجديداً لمنحة التفرغ، وكلهم ذوو فن حديث، فقد راح يعارض ويمانع بألذع ما يستطيعه من تهكم فيقول: «إن في مستطاعي أن أرسم مثل هذه اللوحات، ففيم يكون هؤلاء من رجال الفن؟» بل راح يعيد القصة المعروفة من أن عدوّاً للفن الحديث، ملأ ذيل حمار بالألوان وأطلق الحمار ليخطو كما اتفق، فيحرك ذيله على اللوحة، فيلونها بخليط من اللون كما يفعل رجال الفن التجريدي، ثم بلغت بالرجل روح الفكاهة أن يعرض تلك الصورة في معرض للفن الحديث..
لم يأل العقاد جهداً في مقاومة هذه الموجات، وكان مما يحتج به دائماً، انه في هذه اللجان يشعر أنه يمثل الدولة، فلو كان الفنان ينفق على نفسه لتركناه حراً. لكن هل يجوز أن تنفق الدولة على فن لم يقل فيه التاريخ كلمته بعد؟ ألا يجوز أن يختفي بعد حين - وسيختفي حتماً كما كان يقول - وإذن تكون الدولة قد أنفقت مالها وتشجيعها على نزوات!
ولا يقل موقفه من الشعر الحديث، وما يتصل به، طرافة ورجعية معاً، عن موقفه من تمثال القط وما يتصل به من تماثيل ولوحات صنعها أصحابها على أسلوب المدارس الفنية الحديثة.
ففي اجتماعات لجنة الشعر بالمجلس الأعلى المذكور، وكان العقاد أميناً عاماً لهذه اللجنة، وقف موقفاً سلبياً شديد السلبية من الشعر الحديث، غير معترف إلا بالشعر المكتوب على أسلوب الخليل دون سواه، رافضاً كل الرفض شعر التفعيلة الجديد، محيلاً الدواوين المكتوبة استناداً إليه، إلى لجنة النثر «للعائدية» على أساس أنها نثر لا شعر..
وجرى في هذه اللجنة نقاش حاد مع العقاد محوره السؤال التالي: هل يقبل الشعر إذا تخلى الشاعر عن تقاليد هذا الفن الأدبي الموروثة على السنين، من وزن وقافية؟ هنا امتد النقاش في لجنة الشعر ساعات طوالا، وموقف العقاد من رفض هذا الشعر السائب، صلب لا يلين. وحجته أنه إذا كان لكل لعبة قواعدها التي لا تجوز بغيرها، أفلا يكون للفن قواعده؟ ثم ما عيب النثر الفني إذا ما ألحق هؤلاء الناثرون أنفسهم به؟ وآخر ما وصلت إليه المناقشات من نتائج فيها التحوط والتسامح، هو أن تقرر اللجنة أن معيار القبول والرفض إنما يكون الجودة وعدم الجودة الفنية دون اشتراط شيء أكثر من ذلك. وقبل العقاد ذلك، لكنه ظل قراراً لا يجد الحالة الواحدة التي يطبق عليها. فكلما وردت إلى اللجنة قصيدة من الشعر الحديث، قررت اللجنة أن تحال إلى لجنة النثر لعدم اختصاصها هي بالنظر فيها..
واشتدت الحملات الصحفية على العقاد في موقفه هذا، ومن ورائه لجنة الشعر، لكنه لم يكن هو الرجل الذي يعبأ بمثل تلك الحملات القلمية لأنه تعوّدها حتى أصبحت جزءاً من حياته التي لم يكن يعيش بغيرها. وقد بلغ من موقفه هذا في صد موجة الشعر السائب (هكذا كان يسميه) ذروة التطرف، حين عرضت على لجنة تحكيم شكلت ذات يوم للنظر فيمن يستحق نيل جائزة الدولة في الشعر، كان هو مقررها، فنشأت مشكلة، هي أن ديواناً تقدم بين غيره من دواوين، والديوان من الشعر الموزون المقفى، لكن صاحبه قدم للديوان بمقدمة يقول فيها إنه لم يعد ينظم على نهج التقليد، وإنه أول من لا يرضى عن قصائد هذا الديوان، ولو قال الشعر الآن لما قاله إلا في الصورة المستحدثة الحرة. وقد كان مستوى الشعر في ذلك الديوان مما قد يرشحه للجائزة، لكن العقاد وقف كالسد المنيع يقول ان النظر يكون إلى مقدمة الديوان وإلى شعره معاً، معارضاً لمن قال ان المسابقة هنا منصبة على الشعر وحده. وعبثاً حاول القائل أن يحمل اللجنة على الفصل بين نثر المقدمة وشعر القصائد. إلا أن العقاد لم يقبل أن تجزأ الشخصية الواحدة هذه التجربة المصطنعة. فالرجل شيء واحد، يقبل كله ويترك كله، ولا مساومة!
هذه نماذج من مواقف العقاد المحافظة، أو الرجعية، في سنواته الأخيرة. فقد العقاد جذوة النار الأولى التي بدأ بها حياته ولاذ بقناعات بائسة أساءت إلى تاريخه المليء بالإيجابيات. وقد تعرض بسببها لهجمات طائشة لا ترى فيه إلا عموداً من أعمدة الرجعية الفكرية والذوقية وتنكر عليه كل فضل. وهذا ظلم بالطبع لأن العقاد بوجه عام، أحد أععمدة الحركة الأدبية والفكرية العربية المعاصرة. ولكن المعارك الطاحنة التي خاضها ألبت إليه الكثير فعاملوه معاملة خشنة وجحدوا ايجابياته.
والواقع أن هناك عقّادين لا عقّاداً واحداً، أحدهما رجعي مغرق في الرجعية يتبدى في الكثير مما كتب من شعر ونقد ودراسات شتى كتبها حول شخصيات من التراث وسواه، كما يتبدى في المواقف من نوع ما رويناه عن موقفه من الشعر الحديث ومن الفن الحديث.
ولكن النقد المنصف والموضوعي لم يمهل حسناته وهو يتحدث عن سيئاته. فقد أنصف نقاد كثيرون صفحات جليلة باقية في مسيرته وفي طليقها صفحة العقاد الشاب في الأولى من القرن العشرين، الكاتب الذي تمضه الأسئلة الوجودية ويؤرقه التفكير في المصير الإنساني، وينجذب إلى نظرية النشوء والارتقاء وإلى كتابات ماكس نوردو، ويكتب عن التشاؤم بين المعري وشوبنهاور، ويقارن بين إرادة القوة عند المتنبي ونيتشه، ويكاد يؤمن، صواباً أو خطأ، بتفوق العبقرية الآرية على سائر الأجناس، ويستهويه العنصر اليوناني في وراثة ابن الرومي، ويتعاطف مع الاشتراكية ولكنه يظل فردي النزعة ليبراليا على نحو عنيد. يثور على أسلافه من الشعراء والكتّاب، ترمضه الرغبة في المعرفة، ويبكي في وحدته من الشكوك والظنون والغيرة.
هذه صفحة ناصعة من سيرة العقاد لا يستطيع أن يطويها الزمن كما لا يستطيع خصومه إنكارها، وهي صفحة تؤهله للبقاء ولا تطغى عليها أية صفحة أخرى في سيرته.
التعليقات