غالباً ما يتخذ الناس من الحياة الغرض الأساسي ويتركون التحديات المختلفة التي ينبغي إدخالها إلى الواقع الراهن والرؤية المستقبلية، ولكنهم يتبعون المنتجات الأكثر انتشاراً وفي الوقت نفسه لا تجد مخرجاً آخر سوى خطاب يعده الدارسون وفق تعليمات وخطوات لم يطبقوها فينصهر معظمهم في مكوناته، ولسان حالهم يقول: نحن نضع أنفسنا في أماكن مرتفعة ليتسنى لنا مشاهدة ما يعرض على خشبة المسرح بوضوح، وعلينا ترك المقاعد الأمامية لمن يهمه الأمر ويتخذ صفته الرسمية ذات التشكيل الفعلي من طبقات رفيعة المستوى.. حيث إننا نعكف على دورنا العلمي والثقافي دون إسراف، في تكرار لم يثمر عن تقدم يُذكر فثمة عامل رئيسي تناوله "جان جاك روسو" جعل الناس أكثر أنسة وألفة، قائلا: (للفكر حاجاته، كما للجسد، فحاجات الجسد هي أسس المجتمع، وحاجات الفكر هي مباهجه فإن العلوم والآداب والفنون تهذب الأخلاق وتجعلها في غاية المرونة واليسر ومظاهر الفضيلة)، كما جعل بعضاً من مقالاته في العلوم والفنون وأضاف لها معايير تحدد علاقة الإنسان بالطبيعة والمجتمع، فالفن يهذب السلوك ويعلم الأهواء التعبير بلغة راقية فمتطلبات الأدب لا تنتهي، وأوامر اللياقة لا تنقطع، ولا ينفك المرء ينصاع للمألوف، ثم عزز قوله بالصورة الخداعة التي وصف الإنسان بها إذا اتبع نبوغه الشخصي، فلن يجرؤ على الظهور بوجهه الحقيقي.

بهذا المعنى يدرك المرء أن ما تناوله فلاسفة عصر التنوير تحقق بالحرف والكلمة والمعنى اليوم عندما وصف الناس في ذلك الزمن بأنهم كانوا يشعرون بالأمان في سهولة التعارف والتخالط، وكانت هذه الميزة التي لم نعد نشعر بقيمتها، تجنبهم الكثير من الرذائل، وفي الحقيقة هذا أكبر تحد تواجهه المجتمعات العصرية حيث إن تطورها ملحوظ ومحيطها الثقافي ما زال غائباً ولكن التواصل والتعارف والتخالط موجود.

رغم التطور التقني لا توجد تجارب حاسمة تبرئ ساحة الشركات العالمية الكبرى التي ورطت العلم مع السياسة والاقتصاد، ولم يكن لها حياد إزاء غاياتها، وادعى بعض العلماء أن العلم ليس التقنية التي نقيس عليها نهضتنا وتطورنا وأن العلم طيب في حين أن التقنية سيئة تستعبد الإنسان وتضر بيئته.

وليس أمامنا إلا غض النظر عن مراكز النفوذ في العالم التي تحمل مسؤولية الأوضاع الأكثر كارثية وينتج عنها خطط متخاذلة لتعزيز الدور الأمني المنشود للدول المتناحرة وما يدور بها من حروب أهلية وحفظ السلام والمساهمة في توفير الحريات وحل النزاعات والرعاية التنموية ولكن التوصيات الرسمية غير قادرة على تحديد الصلاحيات وبذلك تم عرقلة بعض أولوياتها.

فماذا ينتظر العالم من جهاز حيوي يزداد طاقة وعلى قدرها تتضاعف السلبية ليكون هذا القرن طاقة نووية تعني بالدرجة الأولى استخداما سلميا، وتتضمن مخاطر بيولوجية واجتماعية وسياسية وبمعول العلماء أنفسهم، قتل مضاعف بالملايين في أفريقيا وأفغانستان والعراق وسورية وأوكرانيا، فماذا عسانا نقول أو نكتب عن عصر التقنيات وعن الترف التقني؟!

لأجل هذا، يحق لنا أن نعتبر هذا الدور مبتوراً فالدول العظمى خبأت ملفاته في صناديق حديدية حفاظا على مصالحها وتركت الإنسان تتقاذفه أمواج شرسة لا يعلم أين يستقر ومن أي السواحل يتم انتشاله، فلو أدرك روسو هذا العصر لقال: (أي موكب من الرذائل سيصحب حالة الارتياب هذه؟ لم يعد في الصداقة إخلاص ولم يعد يوجد تقدير حقيقي)، فالأمم اليوم تمارس منهجا متعاليا وتحديا خطيرا جداً بعيدا عن العلوم والفنون فهذا القرن أصبح مملوكاً ملكاً فرديا لدولة دون أخرى. وتشريعه يكافئ الأقوى فقط.

new.live911@hotmail.com