لا تستطيع أن تتعرف على الشعب الألماني إلا من خلال واقعه، بعيداً عن الصورة الذهنية التي ارتسمت في أذهان البعض، نتيجة لظروف وتراكمات مختلفة دفعت العالم لتصنيف الشعب الألماني كواحد من أكثر الشعوب الأوروبية تعاسة وبؤساً.

لم ينشغل الألمان كثيراً بالدفاع عن أنفسهم، بل حرصوا على تلمس الخلل، ولعل كتاب "هكذا يرانا العالم" الذي تناول فيه مجموعة من المراسلين الصحفيين الألمان الصورة النمطية لمجتمعهم في أكثر من 15 بلدا في العالم، يؤكد أن ذلك المأزق قاد الألمان إلى حياة جديدة وأحدث تعبيراً عميقاً عن المتغيرات في الحياة، كما أنه استطاع أن يقرع الجرس معلناً عن مناظرة جريئة، شهدت تقلبات عنيفة زعزعت الفكر من أساسه، إذ نتجت علاقات جديدة بين الإنسان والأفكار، وتجاوزت عقدة التاريخ لتحرر المجتمع من العزلة التي فرضوها على أنفسهم ليتحول إلى مجتمع مثالي.

لن أسلط الضوء على تفوق الألمان في الصناعة ولن أفند أسباب التزامهم الصارم بالمواعيد والدقة في العمل، ولكني سأنفذ من ذلك إلى فضاء الإنسانيات وعلاقة الشعب الألماني بالآخر، وليكن كيفية تعاملهم مع المقيمين أنموذجاً واضحاً لقدرتهم على تفكيك العلاقات الغامضة والمعقدة لكي تتوافق مع العصر الرومانسي على حساب الكلاسيكي الذي أعلنه نيتشه "عصر القلب"، حيث تغيرت القيم الثقيلة والمثقلة وأحدثت التغيير، إلى أن وصل عدد الأجانب المقيمين في ألمانيا إلى رقم قياسي كما أعلنت الإحصاءات بنهاية 2014.

لم يقتصر هذا التحول الإيجابي في طبيعة حياة الألمان الاجتماعية والإنسانية، على تنامي أعداد المقيمين بشكل دائم والذي فاق 8,2 ملايين شخص خلال العام الماضي، مسجلاً أعلى عدد للأجانب في ألمانيا منذ بدء الإحصاءات عام 1967، بل ان ألمانيا حرصت على إبراز الجوانب الثقافية لدى تلك الجاليات التي تعيش على أرضها من خلال إقامة كرنفال ثقافي يستمر 4 أيام ويشارك فيه أبناء المقيمين من خلال موكب هائل يقوم فيه عدد من الفنانين من ثقافات مختلفة بالترفيه عن الحشود بأدائهم واستعراضاتهم.

إن وجود 15 مليون ألماني تعود أصولهم إلى مهاجرين أتوا إلى البلاد في وقت سابق، يشير إلى الكثير من الدلالات استناداً إلى أعدادهم الكبيرة نسبياً قياساً بعدد سكان ألمانيا البالغ 80 مليوناً (39 مليوناً من الرجال و41 مليوناً من النساء)، كما أن وجود تلك الثقافات المختلفة والمتعددة منح المجتمع الألماني ثراء ثقافياً ومعرفياً، بل ان هذا الكرنفال الثقافي أصبح يشكل قيمة مضافة إلى المشهد الثقافي الألماني حيث يقام كل عام في برلين بمنطقة "كروزبيرغ" التي تضم أكبر جالية تركية وأكبر عدد من السكان الأجانب، وشهد قبل أيام مشاركة مئات الآلاف، فضلا عن 5 آلاف شخص من 75 دولة و900 فنان، ولم تقف درجة الحرارة التي بلغت 11 تحت الصفر عائقاً أمام تدفق الزوار الذين بلغوا مليون شخص في الأربع ساعات الأولى من انطلاق الكرنفال.

واستناداً إلى التجربة الألمانية، اسمحوا لي أن أطرح عدداً من الأسئلة حول المقيمين في دول الخليج العربي، لماذا لا نستفيد من هذا التنوع البشري والثقافي؟ لماذا لا تقام كرنفالات مشابهة لتلك التي تقام في ألمانيا؟ خصوصاً وأن نسبة تعداد الأجانب في الخليج إلى عدد السكان الأصليين، تفوق ألمانيا.

كما أن إقامة مثل تلك الكرنفالات من شأنها أن تخفف أثر الغربة على الجاليات وتزرع بذرة التلاحم والتعايش بينها وبين المجتمعات الخليجية، كما أن ذلك التلاحم والتقارب له أبعاد أمنية تتعلق بفهم طبيعة حياة هؤلاء الأجانب والقدرة على التعامل معهم وفق رؤية واضحة، فضلاً عن التعرف على عاداتهم وتقاليدهم وموروثهم الشعبي، وهذا الاختلاف والتمايز والتنوع يمنح الحياة الاجتماعية رونقاً أجمل ويكسر رتم الحياة التقليدية، فحبذا لو اقتبسنا من التجربة الألمانية نافذة نطل من خلالها على ثقافة الآخر، على أن تسند تلك المهمة لإحدى الهيئات المختصة وتمنح مزيداً من الاهتمام والتنظيم.