يعثر الباحث في سيرة كل من الشاعرين احمد زكي ابو شادي ويوسف الخال على نقاط مشتركة: فكل منهما اسس مجلة شعرية يشار اليها عادة في باب المجلات الطليعية والرائدة اسس ابو شادي مجلة ابولو في بداية الثلاثينيات من القرن الماضي واسس الخال مجلة شعر في اواخر الخمسينيات من القرن المذكور.

ومع ان ابو شادي والخال لا يعتبران عند الباحثين من الطبقة الاولى بين الشعراء الا ان احدا لا ينكر اثرهما في انشاء الجمعيات الشعرية واطلاق التيارات الادبية ورعاية الشعراء ونشر شعرهم فقد انشأ ابو شادي جماعة ابولو التي ضمت الشعراء ابراهيم ناجي وعلي محمود طه والهشري وصالح جودت وآخرين كما انشأ الخال جماعة مجلة شعر التي ضمت شعراء مثل ادونيس ونذير العظمة وانسي الحاج وسواهم ومما يجمع بين هذين الشاعرين ايضا انهما لم ينصرفا الى الشعر وحده بل اضافا اليه مهنا اخرى فابوشادي كان مهتما بالنحل والنخالة وقد انشأ لهما مجلة متخصصة بها اما الخال فقد كانت لديه صالة لبيع اللوحات الفنية التشكيلية ولا ننسى الاشارة الى توجيهها الثقافي ذي الطابع الاميركي فابو شادي غادر مصر الى الولايات المتحدة بصورة نهائية بين حياة كفاح ونضال في مصر حيث يتوخى هناك، اما يوسف الخال فقد امضى قسما في حياته في الولايات المتحدة قبل ان يعود الى لبنان وينشئ فيه مجلته وفيه توفي لاحقا وكما درس ابو شادي عشر سنوات في انكلترا قبل ان يعود ويمارس الادب في مصر، درس يوسف الخال الادب والفلسفة في جامعة بيوت الاميركية قبل هجرته الى الولايات المتحدة فالشاعران اذن ثقافتهما انفلوسكسونية وظهر اثر هذه الثقافة في مجلتهيما وادبهما.

ولكن هناك فروقا بين المجلتين؛ فابولو كانت مجرد مجلة محددة دعت الى تحديث الادب العربي دون ان تقطع صلاتها مع التراث الشعري العربي بدليل ان رئيسها الفخري الاول كان شوقي امير شعراء العمود كما يسمى احيانا وان رئيسها الفخري الثاني بعد رحيل شوقي سنة ١٩٣٢ وكان خليل مطران شاعر القطرين. اما مجلة شعر فقد امعنت في مجافاة الشعر التقليدي ودعت الى قصيدة النشر وفتحت صفحاتها لها وكذلك لترجمات من الشعر الاميركي والانكليزي وكأنها بذلك توصى الى مثلها الشعري الاعلى.

واذا لم يكن للمجلتين نفوذهما البالغ في زمانهما وفي البيئة العربية بوجه عام اذ كان توزيعهما محدودا خارج البلد الذي صدرتا فيه فانهما تذكران عادة في عداد المنابر الشعرية المجددة في حاضر الشعر العربي.

ولم يكن الشاعران احمد زكي ابو شادي ويوسف الخال من المتفوقين او المبرزين في ميدان الشعر حتى في اطار مدرسة ابولو او مدرسة شعر بل ان زملاءهما وناقديهما اجمعوا على هذا الرأي وعرضوا له في لباقة.

من قبيل ذلك ما ذكره مصطفى السحرتي من ان ابو شادي اهتم بالفكرة الشعرية قبل العبارة المزركشة ولا يعبأ باناقة العبارة وقد لا يعبأ بموسيقى اللفظ اذا شعر انها تطغى على اهمية المعنى وهو يعتقد ان الشعر حركة وفكرة عاطفة وليكن اللفظ ما يكون وقد يجد ان اللفظ الموفق يثقل الحركة ويخفي الفكرة ويقتل العاطفة.

وذكر خليل مطران في مقدمته لديوان ابو شادي اطياف الربيع ١٩٣٣ انه لا يرى عيبا في الوثبات التي يبثها ابو شادي في استعارته الى ابعد مدى ولا يرى عيبا في موازين الشعر يحرفها قليلا او كثيرا لتكون من الجزالة او السهولة او الرنة الموسيقية وقوله عن اشعاره في الكثير منها ابتكار عجيب وابداع مدهش وفي جوانب منها هنات من الاعراب في اللفظ والمعنى.

ولم يكن يوسف الخال يعبأ كثيرا بالمعنى في الشعر فقد ذكر مرارا في القصيدة الحديثة او الدائرية تشبه اللوحة التجريدية في الفن التشكيلي فاللوحة التجريدية متروك فهمها وتفسيرها للمتلقي او للمشاهد وليس من الضروري ان يتطابق فهم الجميع لها على نحو معين وكذلك القصيدة فالمهم فيها ان تظل في اطار تجريدي غير محسوس يومي دون ان يشير الى معنى محدد على وجه الحصر ويبدو ان هذه التجريدية التي دعا اليها الخال وطبقها في بعض ما كتب هي التي جنت عليه اذ الحق القارئ شعره بتلك الترجمات الشعرية التي نقلها هو او سواه عن الانكليزية ونشرها في مجلته والتي لم يقبل عليها القارئ العربي او يراها نموذجا للشعر، كما الفه وعرفه في تراثه كما في حاضره.

ومن اطرف ما ذكره الشاعر ابراهيم ناجي عن ابو شادي لينكر الناس على ابو شادي شعره اذا شاؤوا وليعجبوا او لا يعجبون ولكنهم لا يستطيعون ان ينكروا لحظة انه بمجهوده الجبار ووثباته الجامحة خلق مدرسة وطرح الى النور شعراء كانوا بحق نورا في الظلمات ولطالما اعتقدت انه يكتب بكثرة وافراط حينما يحتاج الشعر الى غربلة ثم اعود فاعتذر اليه بيني وبين نفسي قائلا انه كشاعر فنان شعره يحب الحياة يريد ان يلتهمها التهاما.

واضاف ابراهيم ناجي موجها كلامه الى ابو شادي ولعل هذه الحيوية العجيبة هي التي جعلتك لا تعنى بالصياغة اللفظية فاذا حضرك المعنى وساعفك الخيال، حلّفت بأي جناح تلقاه، ولعلك لهذا الشباب كالشلاّل المنحدر لا يهم أن يبدو سائغاً وجليلاً».

ويقول مختار الوكيل عن أبوشادي في كتابه «رواد الشعر الحديث» (1439) إنه لا يأبه بالقشور ولا يقف عند بهرج الصناعة، ولذلك تجيء بعض صوره غامضة أو ناقصة الخطوط أو مظلمة الألوان.

ويقول محمد عبدالفتاح إبراهيم في كتابه عن أبوشادي (1955) انه كان شاعراً نجح في كل ضروب القصيدة ينظمها أسرع مما تصفه آلة الطباعة حتى عيبت عليه كثرة الانتاج..

ومن مجموع آراء السحرتي ومطران وناجي ومختار الوكيل ومحمد عبدالفتاح إبراهيم تبدو صورة أبوشادي في وصفها الحقيقي وتقديرها السليم: عدم العناية بالعبارة وموسيقى اللفظ وتحريف موازين الشعر وهنات الإعراب والإغراب والافراط في الانتاج بما يحتاج إلى الغربلة، والغموض ونقص الخطوط وظلام الألوان.

أما يوسف الخال فإذا كان قد كتب الشعر موزوناً ومقفى، في شبابه، فإنه انصرف بعد ذلك إلى كتابته بالعامية، أو بالمحكية ثم إن اللهجة العامية التي كتب بها وجدها الكثيرون لهجة ممجوجة نظراً لأنها تختلف عن اللهجة العامية اللبنانية المعروفة والمحببة عند القارئ العربي. وتعود غرابة محكية الخال إلى كون صاحبها لم يكن لبنانياً أصيلاً أو أصلياً، فهو سوري نزح مع أسرته من إحدى قرى منطقة وادي النصارى السورية إلى لبنان في العشرينيات من القرن الماضي حيث استقرت الأسرة في مدينة طرابلس التي عمل فيها والده قسيساً على الطائفة البروتستانتية كانت لهجة الخال في البداية سورية ثم تفاعلت مع العامية اللبنانية فنتج عن هذا الخليط ما دعاه «بالمحكية». وبها كتب الخال أكثر كتاباته في المرحلة الأخيرة من حياته. ومن الطبيعي القول ان ما كتبه لا تنطبق عليه الصفات التي وحدها الباحثون والشعراء (الذين أشرنا إليهم) في شعر أبوشادي.

فأبوشادي كان شاعراً يكتب الشعر حسب طرائقه المعروفة، في حين أن الخال ترك أسلوب الموزون والمقفى كما ترك الأسلوب التفعيلي لاحقاً إلى ما سمي ويسمى بقصيدة النثر، وكذلك إلى الكتابة «بالمحكية» التي أشرنا إليها. فهو إذن لشاعر ذوي خصوصية معينة. كان في حسبان هذا الشاعر أنه «يؤسس» ويرسي قواعد جديدة للشعر وللغة على السواء، في حين ظل أبوشادي في منطقة «التجديد» لا أكثر ولا أقل. ونحن عندما ننظر اليوم إلى نتاج أبوشادي وسائر شعراء أبولو نجد أن هذا النتاج مجرد خطوة تطويرية تضاف إلى شعر الشعراء الذين سبقوهم، وليس نقضاً لهذا الشعر. في حين أن «حداثة» الخال وسائر شعراء «شعر» لم تكن تلك الحداثة التاريخية المطلوبة، بل كانت حداثة أقلية أو أقليات سعت إلى تجاوز المقومات الثقافية العربية عن طريق تقليد الأجانب وتوسل أساليبهم. وليس هذا من الحداثة الحقيقية في شيء لأن الحداثة، عكس ما تصور شاعر سوري آخر نازح مثل يوسف الخال إلى لبنان ورفيق له في مجلة شعر هو أدونيس، لا تُبنى في فضاء ثقافة أخرى، أو ثقافة أجنبية، وإنما تنبثق من ثقافة الأمة وحضارتها وقيمها ومقوماتها، وهذا ما لم تدركه مجلة شعر، (ومن بعدها مجلة مواقف لأدونيس) ولم يكن باستطاعتها أن تدركه لأن الفكر الذي وجه المجلتين: مجلة شعر ومجلة مواقف، لم يكن فكراً حريصاً على تراث، ولا نادباً نفسه لتطويره وتحديثه، وإنما كان فكراً متأبطاً شراً ضده. وبالتالي فإن مجهود مجلة شعر ذهب مع الريح لاحقاً.

ويبدو أثر الثقافة الأميركية واضحاً تمام الوضوح في «شعر»، كما يبدو أثر الغرب واضحاً أيضاً في شخصية أبوشادي وقناعاته الفكرية والثقافية على الخصوص. ذهب أبوشادي إلى أبعد ما ذهب إليه شاعر عربي في العصر الحديث حين تغنى بجمال الجسد وقوله به وهذا ما أشار إليه أحد نقاده إبراهيم المصري في دراسة تحليلية لشعره حين قال: «وعندي أن الفتح الجديد الخطير الذي فتحه الدكتور أبوشادي في الشعر العربي يتجلى في تمجيده للشهوة الجسدية مقرونة بالجمال الفني. فهو يتغنى بلذة الجسد لأنه إنسان فطري سليم، وهو يفتن في رسمها ويمجدها لشعرنا بما فيها من قوة الصحة وقوة الفرح وقوة التفوق على آلية الحياة وشقائها».

وتعكس «أبولو» كما تعكس «شعر» حيوية المدينتين العربيتين اللتين صدرتا فيها: القاهرة وبيروت، كما تعكس بوصلة التجديد والتحديث فيهما. فإذا كانت القاهرة حريصة على التجديد المحسوب المبني في آن على الأصالة وعلى المعاصرة، فإن لبيروت تطلعاً آخر إلى الحداثة، أو إلى ما تعتبره حداثة، والذي قد لا يكون سوى «موضة» عابرة في نهاية المطاف لا تصمد للزمن بل تسقط كما تسقط أوراق الخريف وتذروها الرياح. وهذا ما حصل بالضبط مع مجلة شعر وشعرها وشعرائها.

image 0

أحمد زكي أبوشادي