في الرابع عشر من مارس الماضي أعلن فلاديمير بوتين بشكل مفاجئ عن سحب الجزء الأساسي من وحدات الجيش الروسي من سورية بعد أن حققت - حسب زعمه - الأهداف التي وضعت أمامها عند دخولها قبل خمسة أشهر تقريباً. ومع نشر القرار يبدو على الأقل أن جزءً من سلاح الجو الروسي هو الذي غادر سورية، وقد أثار سحب هذه القوات الكثير من الاسئلة منها: لماذا اختارت موسكو سحب قواتها في هذا الوقت تحديداً، رغم أن صوتها هو الأعلى، وبعد دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، ذلك الذي اتُفق عليه بين روسيا والولايات المتحدة، وقبل ان تكتمل أهداف التدخل الروسي كما أُعلن عنها منذ البداية وهي (إلحاق الهزيمة بالمتطرفين) وكما يفهمها الغرب (إلحاق الهزيمة بمعارضي الأسد)؟
القرار الروسي المفاجئ والذي لم تُكشف مبرراته بعد، فتح الباب للكثير من التكهنات والتفسيرات المحتملة لهذا التطور من بينها أن القرار نابع من دوافع سياسية روسية داخلية (بسبب قرب موعد الانتخابات البرلمانية الروسية التي ستجري في سبتمبر)، وكذلك دوافع اقتصادية لها علاقة بوضع روسيا الاقتصادي الصعب، أو أن القرار جاء تعبيراً عن الرغبة في الضغط على الأسد وإيران للموافقة على حل سياسي يُنهي الأزمة، أو انه رسالة للولايات المتحدة بأن روسيا تبدي مرونة في الملف السوري على أمل أن تحظى بتخفيف العقوبات المفروضة عليها في أعقاب سياستها في أوكرانيا، أو أن القرار يعكس إدراك الروس بأن أهداف التدخل غير قابلة للتحقيق، لذلك يجب الانسحاب قبل التورط والوصول إلى نقطة تزيد فيها تكلفة التدخل على جدواه. ويبدو أن جميع هذه التفسيرات فيها شيء من المنطق وأن القرار ناتج عن دراسة عميقة.
لا نعرف فيما إذا كانت هذه الخطوة ثمرة لمخطط مسبق أم أن الحديث يدور عن تطورات سلبية من جهة المصالح الروسية في سورية ومن جهة علاقات روسيا مع الغرب، يذكر انه وقبل إعلان روسيا سحب قواتها بوقت قصير أعلنت الولايات المتحدة عن تمديد وتعميق العقوبات المفروضة على روسيا، وذلك على خلاف توقعات موسكو بأن هذه العقوبات سترفع نتيجة التوافق على وقف إطلاق النار في سورية. وبعد ذلك مباشرة نشرت إعلاناً على لسان وزير الخارجية سيرغي لافروف حول دعم تحول سورية إلى فيدرالية، يحتمل إذًا أن أحد أهداف العملية كان تحريك عملية لتقسيم سورية رسمياً، وكذلك تحدي الغرب.
وعلى كل حال، يبدو ان الإعلان الروسي بشأن إخراج القوات من سورية لا يعكس قراراً بالانسحاب الكامل، روسيا أخرجت عملياً جزءً من الطائرات التي شاركت بالقتال في الأشهر الأخيرة، ولكنها أبقت على قاعدتين بحريتين وقاعدتين جويتين ووحدات المراقبة التي تؤمنها ومنظومة القيادة والسيطرة والاستخبارات، وكذلك هيئة المستشارين الروس في الجيش السوري، هذه الحقائق أعلن عنها رسمياً من قبل روسيا مع تأكيد الرئيس بوتين أن الطائرات التي سُحبت يمكن إرجاعها إلى سورية خلال ساعات مرفقاً بتصريح وزير الدفاع سيرغي فيغو بأن روسيا ستواصل التحرك ضد الإرهاب في سورية.
دلالة هذه الأمور هي أن روسيا لم تنهِ تدخلها في سورية، وإنما تغير شكله لخفض المخاطر وتحقيق أوراق المفاوضات وإيصال الرسائل، وكذلك الحفاظ على قدرة العودة سريعاً إلى الشكل السابق. في الواقع روسيا أعلنت عن تخفيض مستوى مشاركتها في القتال في سورية وليس إنهاء تدخلها العسكري في الحرب.
في التوضيح الروسي الرسمي بشأن تغيير ترتيب القوات دار حديث عن إنجاز أهداف التدخل الروسي في سورية، وإذا كان الهدف المعلن وهو محاربة الإرهاب المتمثل في تنظيمي داعش وجبهة النصرة، فإنه ما يزال بعيد المنال. ولكن الهدف الثاني تحقق، فقد أنقذ نظام الأسد من الانهيار أمام الثوار، ومكن التدخل الروسي - وكذلك دعم قوات حزب الله وإيران والميليشيات الشيعية - نظام الأسد من بسط سيطرته في المنطقة الممتدة من محافظة دمشق مروراً بمناطق حمص وحلب وحتى منطقة الساحل، وهذا الانجاز كانت له الأولوية لدى روسيا، هذا النجاح العسكري سمح لروسيا ان تطبق المرحلة الثانية من مخططها، وهي موافقة التنظيمات المعارضة على المفاوضات على أساس الشروط التي رفضوها قبل ذلك، والتي تجعل العراب الروسي يقوم بدور مركزي فيها.
في هذه المرحلة من الصعب التقدير فيما إذا كانت القوة التي منحها التدخل الروسي إلى الآن لنظام الأسد ستضمن بقاءه، وفي ظل غياب الاتفاق الكامل بين النظام والمعارضة فاحتمال انهيار وقف اطلاق النار وارد جداً، إضافة إلى ذلك هناك شك بأن التواجد الروسي المتبقي في سورية سيمكن الأسد من مواجهة داعش وجبهة النصرة بنجاح، وسيما بعد ان قلصت إيران حجم تدخلها العسكري المباشر في سورية، لذلك فإن روسيا تبقي في يديها خيار العودة إلى سوريا بالقوات التي سحبت.
يسود انطباع بأن روسيا تحاول أن تقدم تفسيراً يفهم من خلاله أن سورية ستنقسم إلى كيانات سياسية، من غير الواضح في الظروف الحالية فيما إذا كان من الممكن توحيدها مجدداً في المستقبل، لكن من خلال روسيا تقوى الكيان السياسي الذي يرأسه الأسد، وإلى جانب هذا الكيان يوجد عملياً كيان كردي مستقل على الحدود التركية، والكيان الثالث سيكو سنياً على المنطقة المسيطر على أغلبها حاليا من قبل داعش.
بخصوص داعش تجدر الإشارة إلى أنه ما يزال من غير الواضح مدى رغبة روسيا أن تكون متدخلة بمواصلة الحرب ضدها إلى جانب اللاعبين الاخرين الذين يخوضون الصراع معها (الولايات المتحدة، وتركيا، وإيران وحزب الله، والأكراد) الذين يتطلعون إلى إقامة كيانهم الخاص في ظل معارضة تركيا الكبيرة وكذلك. واضح أن هؤلاء اللاعبين الساعين إلى دفع مصالحهم لهم أيضاً اهتمام بطرد التنظيم.
من خلال هذه الديناميكا، على الولايات المتحدة والتحالف الذي تقوده أن تواصل وتدفع المواجهة مع داعش، وذلك عبر المناورة بين الجهات المتدخلة ومحاولة التوصل إلى تفاهم مع روسيا أيضاً بشأن محاربة التنظيم، وحول العملية السياسية في سورية بطريقة تخدم أهدافها التي لا تشبه المصالح الروسية، لا بالنسبة لمستقبل نظام الأسد ولا بالنسبة لإبقاء سورية منطقة نفوذ روسي.
بخصوص انعكاس هذا التطور على إسرائيل، إلى الآن فضلت تل أبيب الامتناع عن التدخل المباشر في الأزمة السورية، روسيا - والتي تعتبر إسرائيل لاعب إقليمي مهم - تفضل رؤيتها متمسكة بسياستها الانعزالية بخصوص المواجهة في سورية، ويبدو أنها ستفضل ذلك في ظل وجود احتمال عودتها للتدخل في الأزمة الاقليمية.
من جهة إسرائيل، فإنها تفضل عدم اقتراب العمليات القتالية من حدودها، وإطلاق يدها للتحرك ضد أي طرف يهددها، كشرط لاستمرار تعاونها مع روسيا في المنطقة، خاصة وأنه ليس لديها سبب لتعارض الخطوات الروسية التي هدفها تقسيم سورية إلى إطار فدرالي أو خلافه.
التعليقات