كشف المؤتمر السنوي لمركز دراسات الأمن القومي الإسرائيلي التابع لجامعة تل أبيب، تبايناً كبيراً في تشخيص المسؤولين الإسرائيليين لترتيب التهديدات التي تواجهها إسرائيل، وقد ظهر ذلك جلياً في خطاباتهم خلال المؤتمر، فبعضهم وضع "داعش" على رأس قائمة التهديدات لإسرائيل، أما رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي غادي ايزنكوت فأبدى وجهة نظر مخالفه حيث اعتبر "حزب الله" هو الخطر الأكبر، بينما فضل السياسيون اعتبار إيران على رأس قائمة التهديدات لإسرائيل، والغريب أن الجميع تجاهل القضية الفلسطينية وفضلوا عدم إدراجها على سلم التهديدات لأمنهم القومي، الأمر الذي جعل المسؤول عن تنظيم المؤتمر أودي ديكل يصف تضارب خطابات المسؤولين في تشخيص الأخطار بالإرباك الاستراتيجي.

وطبقاً لتقرير لمركز أطلس للدراسات فإن السفير الأميركي في تل أبيب دان شابيرو هو الوحيد الذي تحدث بصراحة عندما ركز في كلمته على القضية الفلسطينية وتداعيات الاحتلال، ونشوء نظام فصل عنصري في الضفة، الأمر الذي أثار انتقادات عدد من مسؤولي الحكومة الإسرائيلية.

الحدث الأهم كان الاختلاف الكبير بين المستوى الأمني والمستوى السياسي في تشخيص التهديد الإيراني وفي تقييم الاتفاق النووي.

رئيس الأركان ايزنكوت نجح في لفت الأنظار إليه فيما قاله عن الاتفاق النووي الإيراني، حيث رأى أن الاتفاق يحمل في طياته الكثير من الفرص لإسرائيل، حيث أبعد خطر القنبلة لسنوات، وعزز دور الإصلاحيين في طهران، وسيؤدي الى تقليص رعاية إيران للإرهاب، وخلص في كلمته الى أن "حزب الله" هو المهدد الأمني الأول. وقد تسبب تقديره هذا في جعله عرضة لسهام السياسيين وانتقاداتهم، وابرزهم كان الجنرال السابق غالنت حيث قال: "على المستوى الأمني أن ينشغل بعلاج التهديدات وترك تحديد السياسات للسياسيين"، أما وزير الدفاع يعلون الذي ألقى كلمة في ذات المركز فقد أعاد التأكيد على أولوية الخطر الإيراني، بصفته أعظم التهديدات القائمة والراعي الأكبر للتهديدات الأخرى.

وحسب "أطلس" فقد احتفت بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية بخطاب ايزنكوت، وأثنت على شخصيته وعلى مؤسسة الجيش على اعتبار أنها المؤسسة الوحيدة القادرة على حراسة الديمقراطية الإسرائيلية، وعلى اعتبار ايزنكوت الشخص الأكثر اتزاناً، ووصفته بالراشد الوحيد في ظل حمى التطرف وخضوع المستوى السياسي للوبيهات المستوطنين ولاضطرارات الانتخابات التمهيدية أو العامة. وأكد المركز في تقريره أن الاختلافات في تقديرات المستويين العسكري والسياسي في إسرائيل لا قيمة لها، لان الجيش لا يملك إلا الانصياع لهذيان المستوى السياسي اليميني.

ويعتبر حديث ايزنكوت عن بعض الإيجابيات التي ينطوي عليها الاتفاق على الملف النووي الإيراني، وعدم إدراج إيران في مقدمة التهديدات الأمنية، مساً كبيراً ببقرة نتنياهو المقدسة، وبأهم ركيزة لاستراتيجياته السياسية، ويكشف أيضاً كذب المبررات التي أفضت لمثل تلك الاستراتيجيات، وتكشف خلفياتها الحقيقية، وتقول الكثير عن الأسباب الخفية للصراع العلني مع البيت الأبيض حول الملف الإيراني، وعن أولوية التهديد النووي في خطابات نتنياهو بالمحافل الدولية والمحلية. ورغم ذلك يصر السياسيون على التأكيد بأن إيران باتت أقوى بعد الاتفاق مع القوى العالمية، ويطالبون دوماً المسؤولين الأمنيين على إثبات أن تهديد إيران حقيقي وأنها لا تلتزم بكامل بنود الاتفاق النووي.

لقد وجد نتنياهو في الملف النووي الإيراني ضالته وفرصته الكبيرة، ونجح في استخدامه وتوظيفه أفضل توظيف، حيث ضمن له ولايتين حكوميتين، تمكن خلالها من سحق خصومه السياسيين في المعارضة، وطمس الملفات الأخرى، فقد كان على نتنياهو أن يختار الملف الأقرب إلى شخصيته، الملف الذي لن يشكل حرجاً له ولا يمكن قياس الفشل به، لا يتطلب سوى مهارة الخطابة، والأهم يمنحه طوق نجاة سياسي والكثير من الوقت بدون أن يضطر للتصدي للملفات الأخرى التي تشكل له تحدياً كبيراً، فمن بين الأولويات الأكثر اشتعالًا، أولوية ملف قطاع غزة أو أولوية ملف المفاوضات، اختار الملف الإيراني، وهو يستميت لإبقائه على السطح دائماً، وربما كان خروج نجاد من السلطة في إيران أكثر اللحظات حزناً في حياته. إن استغلال الصراعات واللجوء الى صناعتها أحياناً لتحقيق أهداف أخرى ليس أمراً جديداً، والقضية الفلسطينية مثال حي على ذلك.

فإيران نجحت في فتح استثمار طويل الأجل للقضية الفلسطينية، ومكنها فتح "الصراع الكلامي" مع إسرائيل من بناء نفوذ واسع لها في المنطقة استند على التعاطف الشعبي مع سياساتها، غير أن نفوذها هذا سرعان ما انكشف في زمن الاصطفاف المستند على المصالح والتوظيف الطائفي.

ويبدو أن ورقة "الصراع مع إسرائيل" لم تنته بعد بالنسبة للحرس الثوري والمرجعيات الدينية والسياسية في إيران، وستظل حاضرة لسنوات قادمة وإن اختلف مستوى توظيفها.

image 0