احتلت الثقافة والفنون بمعناها الشامل موقعاً محورياً في رؤية السعودية 2030، حتى يمكن القول إن الرؤية التي أعلنها الأمير المُلهم محمد بن سلمان بأبعادها الاقتصادية والتنموية لا تخدم سوى هدف واحد هو بناء الإنسان السعودي وبناء فكره ووعيه وثقافته لكي يكون قادراً على الوفاء بمسؤوليات المستقبل. ولا شك أن الرؤية تمثل طموح الفنانين وتترجم آمالهم، لكن: هل الفنانون أنفسهم قادرون على تحقيق أهداف الرؤية في مجالهم الفني بالذات؟

تتحدث الرؤية بوضوح عن النهوض بصناعة الترفيه لتكون جزءاً رئيساً من اقتصاد المملكة. وهذا الهدف الكبير يتطلب شروطاً مسبقة، وبنية تحتية متينة، تسمح للمال بأن يدور بشكل طبيعي في جسد هذه الصناعة الوليدة. عندما نقول "ترفيه" فإن هذا يشمل المسرح والسينما والموسيقى والتشكيل وبقية الفنون إضافة إلى المتاحف ومدن الألعاب باختلاف أنواعها، وكل واحد منها يعد صناعة في حد ذاته، لكنها جميعاً تشترك في احتياجها إلى أرضية إجرائية قانونية تساعد المستثمرين وتضمن دورة المال.

وإذا حصرنا الحديث في صناعة الفنون فإن أول ما تحتاجه هذه الصناعة حتى تنهض وتتطور وتحقق الأهداف المرجوة منها هو حماية الحقوق الفكرية، فلا صناعة بلا حفظ الحقوق، ولا يتوقع أن يغامر المستثمرون وهم يرون إنتاجهم يباع "منسوخاً" في قارعة الطريق. كانت صناعة الأغنية السعودية مزدهرة في الثمانينيات يوم أن كان المستهلك يحرص على شراء الألبوم الأصلي لفنانيه المفضلين، لكنها انهارت تماماً عندما بدأت محلات الكاسيت ببيع "نسخ" غير شرعية جهاراً نهاراً دون محاسبة، فأغلقت شركات الإنتاج ولم يعد هناك سوى شركة روتانا التي مازالت تحارب القرصنة لوحدها.

محلات الفيديو عاشت ذات الأزمة منذ عام 1998 عندما انتشرت نسخ "السينما" غير الشرعية عبر محلات مشهورة تقع في قلب مدينة الرياض ولم يكن هناك من يتصدى لها، فكانت مثل السرطان الذي أخذ ينهش جسد هذه التجارة المهمة حتى قضى عليها تماماً. إن أي صناعة لا يمكنها النهوض دون حماية، وأساس صناعة الفن في كل مكان في العالم هو حفظ حقوق الملكية الفكرية ومحاربة كل من يتاجر بالنسخ غير المشروعة والتعامل معه كمجرم يستحق أقسى العقوبات. بدون هذا الشرط، وبدون إغلاق كل المحلات المخالفة فلا يمكن الحديث عن صناعة متطورة.

الشرط الثاني لصناعة فنية تحقق رؤية 2030 هو فتح الكثير من نوافذ العرض التي تسمح للمستثمر بعرض منتجاته الفنية على الجمهور مباشرة ودون وسيط. في المملكة هناك رجال أعمال كبار يستثمرون في صناعة الفن العالمية، في هوليوود وغيرها، ومع ذلك لا يستطيعون الاستثمار داخل بلدهم بسبب ضيق المساحة المتاحة أمامهم، حيث لا توجد سوى ثلاث قنوات تلفزيونية فقط تنتج عدداً محدوداً من المسلسلات، كما لا يوجد سوى شركة واحدة فقط للإنتاج الغنائي، وهذا رقم فقير لا يغري أي مستثمر، أما السينما فلا منفذ لها حتى الآن.

الصناعة –أي صناعة- تعتمد بشكل رئيسي على منافذ بيع المنتجات للمستهلكين، تنمو إذا كثرت هذه المنافذ، وتنهار بقلتها. وبالنسبة لصناعة الفن فإنها لن تنهض بدون فتح كل المنافذ المتاحة التي تسمح للمستثمر بتحقيق أرباح تساعده على الاستمرار في الإنتاج. لا بد من فتح مسارح تجارية في كل مدينة من مدن المملكة، وقاعات للموسيقى والحفلات الغنائية، وصالات سينما، ومتاحف، بمقابل مادي وشباك تذاكر حقيقي، وحينها سنتفاجأ جميعنا بضخامة سوق الفن السعودية، وبقوة المستثمرين فيها، ووفرة المستهلكين.

لنعد الآن للفنانين ونسأل: أين موقعهم من كل هذا؟ إن المتأمل في حال فنانينا سيجد أنهم للأسف لا ينظرون لمجالهم بشكل جاد، خاصة الرواد منهم، فالمغني يكتفي بتقديم أغنية، والممثل لا يتجاوز طموحه الحصول على تعميد من هذه القناة أو تلك. تفكير محدود وطموح فقير ووعي قاصر، بينما المرحلة المقبلة تتطلب منهم وعياً جديداً ومختلفاً يدرك أبعاد النقلة الكبيرة التي ستحققها لهم الرؤية الملهمة 2030، وأول شيء نطلبه منهم أن يكونوا على قدر المسؤولية وأن يكافحوا من أجل تطبيق أهداف الرؤية على أرض الواقع.