لو استطعنا أن نشخص حالة أو حالات أمراضنا المزمنة لكنا بذلك حققنا أهم مرحلة من مراحل البناء الحقيقي.

الإنسان هو الإنسان في كل الأزمنة.. ومواهبه وقدراته متشابهة، متماثلة.. ولكنه يختلف في استلهام الحكمة والمعرفة. فإذا أصر على أخذها ووظف كل قدراته وطاقاته في سبيلها فإنه وبلا أدنى شك أو ريب سينجز ما لم ينجزه غيره من السابقين.. وهذه هي عجلة أو سلسلة الكون الأزلية.

تنام أمة ثم تستيقظ أخرى لتأخذ من السلسلة بحيث انتهت الأمة التي قبلها. وما ذاك إلا لأن الأمة التي استيقظت صحت على غفلة تلك واستفادت من تجربتها السابقة..

ولاشك أيضاً أن الأمة التي استيقظت لم تستيقظ لأن النهار خرج عليها فجأة.. بل لأنها حاربت الليل طويلاً وخططت لاستقبال الصبح وما كان ذلك بتدبير غريزي تلقائي كما هي غريزة الطيور التي تستيقظ لالتقاط رزقها مع انبثاق أول خيوط الفجر.. بل كان ذلك بتدبير عقلي مدرك، مرسوم، ممنهج.

كان ذلك نتيجة معالجة الأخطاء والإصرار على التصحيح.

كان ذلك نتيجة الإخلاص الحقيقي وقتل الرغبات الذاتية النفعية الضيقة.

كان ذلك نتيجة قتل الأنا ووأدها لتحل محلها نحن وهم.

كان ذلك نتيجة تدبير حكيم مخلص لصناعة منهاج يسبق منهاج الواقع إلى منهاج المستقبل.

كان ذلك نتيجة شيء عظيم ومهم هو الوعي.. الوعي بالآخر، الوعي بالثقافة، الوعي بقيم الأمة، وحضارتها، ومقدراتها، وهو أيضاً الوعي الناشئ عن الإحساس بالآخر، وإعطاؤه فرصة العمل والإبداع وحرية الانطلاق..وليس الانكفاء على الذات، وتضخيم الأنا وإدخال الآخرين في حظيرة الأنانية والتبعية.

إن الأمة بهذا الشكل تنصهر في قالب واحد، وتدور على محور واحد وفي اتجاه واحد، ومن ثم فإنها تكون هنا قد أصبحت محصنة من الاضطراب والدوران حول نفسها في اتجاهات مختلفة ومتقاطعة، ومتعاكسة..

هنا تحل روح المحبة، وتحل روح الإبداع، ويصبح جسد الأمة محصناً ضد كل الأمراض، والأوجاع..

يصبح لديها القدرة، والقابلية على حماية نفسها بنفسها تماماً كالجسد الصحيح القادر على مهاجمة الجراثيم والطفيليات التي تتسلل إليه.

أما إذا انفرط عقد الأمة الفكري والأخلاقي وانقطع خيط الانسجام، فإن الأمة تظل مضطربة مرتبكة، انتفض عليها حبل إرادتها، وصارت مجالاً للفوضى والعبث ولم تعد قادرة على معرفة ما تريد، وتظل كالغريق الذي يتخبط في المحيط بحثاً عن حبل النجاة فلا يجده أو كالأعمى الذي يسير على غير وجه فهو عرضة للسقوط في الحفر والأودية السحيقة.

الوعي بأن الوطن الغني ليس هو الذي تتزايد فيه أرقام الملايين أو البلايين.. وليس الوطن الغني هو الذي تنمو فيه نسب الأسهم الربحية بشكل خيالي.. لأن هذه الأموال هي في الحقيقة أرقام بنكية ضمن شبكة بنكية عالمية..

ولكن الغنى في الحقيقة هو الإنتاج.. هو صناعة الأشياء وخلقها.. هو بناء قواعد اقتصادية تحمي الوطن من الهزات، والزلازل الاقتصادية، أي أن ندخل مرحلة الخلق والإبداع والاعتماد على النفس في تحصين الوطن بالصناعة، والإنتاج، ومشاركة العالم في منهجه البنائي، بأن يستقيل عن غيره في تحديد مصير غذائه وصناعته وبنائه.. أي أن نحول الوطن إلى ورشة بناء يشارك فيها الكبير والصغير، المرأة والرجل.. أن نغدو مصبحين إلى العمل ونعود ممسين من العمل، ليس العمل المكتبي وإنما العمل المهني.. هنا سوف نقضي على البطالة، سوف نقضي على الخمول، وسوف نستثمر جهد الشباب وطاقته..سوف نصبح أمة لها مكانة في التاريخ.. أما إذا عشنا على منتجات الغير وأصبحت قدراتنا قدرات جودة وتميز في الاستهلاك فسنظل أمة على هامش التاريخ، وسوف نظل نعاني من أمراض خطيرة، اجتماعية، وأمنية، وثقافية.

والوعي لا تصنعه الأماني، ولا وسائل الرجاء، الوعي نصنعه أنت، وأنا، وهم..

الوعي تصنعه إرادة قوية، إرادة متأنية قادرة على استشراف المستقبل استشرافاً صادقاً مخلصاً بعيداً عن الأهواء والعواطف والنزعات الخاصة..

الوعي تصنعه إرادة مخلصة، من أبناء الوطن المخلصين الذين يؤرقهم حب الوطن، وتخفق قلوبهم وجلاً وخوفاً عليه.. وهم موجودون وكثيرون، فالأوطان كالأرحام الصالحة لابد أن تنجب خيرين.. وكالأراضي الصالحة تنبت بالخير والنماء والبركة.. تنبت بالنخيل المثمرة.. والسنابل الثقيلة.. علينا فقط أن نحسن الزراعة كي نحصد الجنى..