في دولة عربية، دولة مواجهة، وخلال حرب 67التي فقدنا فيها القدس، وسيناء، والجولان، وأراضي عربية شاسعة، وفقدنا كرامة، وهيبة، وإنساناً، وإرثاً تاريخياً كبيراً، وأسقطنا الآن المطالبة بالعودة إلى حدود ما قبل 5حزيران 67، وأصبحنا بالكاد نطالب بفك الحصار عن ياسر عرفات (دائماً المهم عدم سقوط الزعيم) ومنح الفلسطينيين حكماً ذاتياً على مساحة تقل عن 50% من أراضي الضفة، في تلك الدولة، وخلال الحرب فرضت الدولة رقابة عسكرية على الصحف ، وأصبحت مواد الجريدة المطبوعة تمرّ على الرقيب العسكري قبل نشرها. حفاظاً على المصالح القومية والوطنية (!!) فلا صوت يعلو فوق صوت المعركة (!!).

وفي مثل هذه الظروف تحرص الصحافة التي تحترم نفسها، وتعي دورها، وتدرك رسالتها بأن تترك الأعمدة التي حذفت موادها التحريرية بقلم الرقيب العسكري الأحمر، تتركها بيضاء في إشارة للقارئ بأنها مادة حذفها الرقيب، إلا أن الرقيب في هذه الدولة كان يصر على أن توضع مكان المادة المحذوفة مادة أخرى تكون مجازة صالحة للنشر، وليس فيها ما يضلل الرأي العام (!!) أو يخدعه أو يحبطه بمعلومات كاذبة تنال من التماسك في الجبهة الداخلية (!؟) فمعلومات المعركة مصدرها الوحيد والموثوق والعارف والعالم أحمد سعيد (!!) على كل الجبهات..

وكان أن كتب رئيس التحرير في مطبوعة يومية بهذا القطر العربي افتتاحية الجريدة، وأرسلها إلى الرقيب العسكري فلم يجزها، فكتب افتتاحية ثانية، وثالثة وكان حظها الشطب بالقلم الأحمر. والبياض في الجريدة ممنوع، ممنوع.

كتب رئيس التحرير المعروف بأنه عقل ثقافي وصحافي وسياسي، ومقروء بشكل كبير، ومحلل يقرأ الأوضاع والتطورات بصورة واعية، كتب الافتتاحية في المرة الرابعة بعنوان "فوائد البصل" وذهب يعدد ميزات البصل، وفوائده الغذائية، ويثني على النكهة التي يعطيها للطعام، كمذاق ورائحة، ونصح الناس بالإكثار من البصل في إعداد طعامهم، ووجوب وجوده على موائدهم، وتشجيع زراعته، وإتاحته لكل الناس على مختلف طبقاتهم الاجتماعية، وشرائحهم بحيث يكون في متناول غنيهم وفقيرهم (!!).

أجاز الرقيب العسكري الافتتاحية، ونشرت على الصفحة الأولى بحرف كبير يختلف عن حرف مادة الصفحة الأولى، مذيلة بتوقيع رئيس التحرير.. (!!) وقرأ الناس افتتاحية لكاتب كبير عن فوائد البصل في أتون حرب مواجهة فقدنا فيها كل شيء، كل شيء..

هكذا، حكم العسكر في الوطن العربي.

قمع، واضطهاد، ومصادرة لأفكار وآراء الآخرين، وتكميم للأفواه، وكسر للأقلام، وفتح سجون النزلاء فيها من أصحاب الرأي، والفكر، ومن هم أحرص على مستقبلات الأوطان والشعوب من العسكر الذين يتولون السلطة، وينعمون بامتيازات الكراسي، ويشيعون الفساد كثقافة محلية.

وإذا تصفحت صحافة حكم العسكر فستجدها تمجيداً بالزعيم، وتصنيماً له، وتغنياً بأمجاده، وبطولاته، وإنجازاته، ووعيه، وفكره وكأنما لم تنجب هذه الأمة مثله، مع أنه في مطلق الأحوال لا يمكن أن يصل إلى وظيفة ساعي بريد لو كانت الأمور عقلانية، والزمن لم يكن رديئاً.

أما أن تجد في هذه الصحافة فكراً، وثقافة، وتوعية، واستشرافاً للمستقبلات، ونقداً عاقلاً للإدارة، والقرارات، ووضع خطوط لاستراتيجيا التنمية، والتعليم ومكافحة الفقر، والمرض، والجهل فهذه محرمات.

اكتبوا عن فوائد البصل، والثوم، والكراث، ذلك خيرلكم، ولكي يفهم عليكم العسكر..!!