عديدة هي الدول والنخب السائدة، التي تعتقد أن سبيل استقرارها واستمرار سيطرتها وهيمنتها على مجتمعها، هو بالمزيد من الاجراءات والأنظمة التي تكبل المواطنين وتمنعهم من حرية الحركة وتحول دون ممارسة الكثير من حقوقهم ومكتسباتهم المدنية.

لذلك فإن هؤلاء يتعاملون مع مفهوم الاستقرار السياسي والاجتماعي بوصفه صنو الأمن وتوأم تقييد الحريات وملازماً للكثير من الاجراءات المقيدة للحريات والمانعة من ممارسة الحقوق. وعلى ضوء هذا الفهم للاستقرار وطريق الوصول إليه، فإن هذه النخب مع أي مشكلة تتعرض إليها أو أزمة تصيبها، لا تفكر في أسبابها الحقيقية وموجباتها العميقة، وإنما تعمل على زيادة الاحتياطات والاحترازات الأمنية، وكأن غياب الاستقرار أو تعرضه لبعض الهزات، هو من جراء تراخي الأمن.

وهكذا فإن هذه الرؤية تتعاطى مع مسألة الاستقرار ليس بوصفه محصلة نهائية للعديد من الشروط الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأمنية، وإنما بوصفه نتاج القوة المادية وممارستها تجاه الفئات أو النخب الاجتماعية الأخرى.

ومن هنا نفهم طبيعة الخوف والحذر الذي تبديه النخب السائدة في العديد من الدول من الحرية وتوسيع حقائقها وآليات عملها في الفضاء الاجتماعي. فتجعل وفق هذا المنطق قيمة الاستقرار مناقضة لقيمة الحرية وحقوق الإنسان.

وإذا أردنا الاستقرار فعلينا أن نضحي بقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان. ولا سبيل إلى الجمع بين هذه القيم في الفضاء الاجتماعي. فيتم شراء الاستقرار بمنع الحرية وبانتهاك حقوق الإنسان الأساسية. وهكذا توفرت في العديد من الدول تقاليد لتعزيز الاستقرار السياسي والاجتماعي، مؤدى هذه التقاليد هو أن طريق الاستقرار هو التضحية بحريات الناس وحقوقهم الأساسية وبالمزيد من تعظيم دور الاجراءات التنفيذية والعملية كمقيد لحركة الناس وحرياتهم. وفي مقابل هذه الرؤية التي تتعاطى مع مفهوم الاستقرار من زاوية أمنية محضة، هناك رؤية أخرى تحاول أن توفق بين مطلب الاستقرار السياسي والاجتماعي وضرورات الحرية ومتطلبات صيانة حقوق الإنسان.

وانه لا تناقض جوهري بين هذه الضرورات والمتطلبات والاستقرار السياسي والاجتماعي. بل على العكس من ذلك تماماً. حيث ان طريق الاستقرار الحقيقي لا يمر إلا عبر بوابة ممارسة الحرية ونيل الحقوق والمكاسب المدنية. وان أي محاولة لفك الارتباط بين الاستقرار والحرية بين الأمن وحقوق الإنسان، سيفضي إلى المزيد من تدهور الأوضاع وانهدام أسباب الاستقرار الحقيقية.

ويخطئ من يتصور ان طريق الاستقرار يمر عبر التضحية بحريات الناس أو التعدي على حقوقهم، وذلك لأن هذه الممارسات بتأثيراتها المتعددة وانعكاساتها المتباينة، ستزيد من فرص عدم الاستقرار وتدهور الأوضاع.

فالطريق إلى الاستقرار السياسي والاجتماعي، هو ممارسة الحرية وصيانة الحقوق الإنسانية والمدنية.

ولذلك نجد في المشهد السياسي العالمي، أن الدول التي تنتهك فيها الحقوق وتنعدم فيها فرص ممارسة الحرية والديمقراطية، هي ذاتها الدول التي تعاني الأزمات السياسية والاقتصادية وتعيش الاضطرابات الاجتماعية وتعاني الأمرين من جراء غياب معنى الاستقرار السياسي والاجتماعي الحقيقي.

أما الدول الديمقراطية والتي تصون حقوق مواطنيها وتعمل على تعزيز فرص المشاركة لدى مختلف فئات المجتمع في الحياة العامة، هي الدول التي تعيش الاستقرار والأمن، وهي البعيدة عن موجبات الاندحار وأسباب تدهور الأوضاع.

فالتجارب السياسية والاجتماعية في العديد من مناطق العالم، تعلمنا أن طريق الاستقرار السياسي والاجتماعي، ليس المزيد من تقييد الحريات، وإنما بصيانة الحرية وتعزيز وقائع وحقائق حقوق الإنسان في الفضاء الاجتماعي، فكلما توفرت أسباب الحرية وصيانة الحقوق الأساسية في الفضاء الاجتماعي، اضمحلت أسباب الأزمة وتلاشت عوامل النكوص وتدهور الأوضاع.. وخطيئة تاريخية وحضارية كبرى، حينما يتم التعامل مع مفهوم الاستقرار وكأنه مناقض لمفهوم الديمقراطية وحقوق الإنسان..

لأن هذا الفهم هو الذي يقود إلى الاستبداد بكل صنوفه، بدعوى المحافظة على الاستقرار. ولكن ومن خلال تجارب العديد من الأمم والشعوب فإن الاستبداد يحمل في بنيته وأحشائه كل عوامل الاضطراب وأسباب الفتن وموجبات التفكك السياسي والاجتماعي. فبدون معادلة متوازنة بين الاستقرار والحرية، بين السلطة وحقوق الإنسان، لن تتمكن مجتمعاتنا العربية والإسلامية من صيانة استقرارها والمحافظة على أمنها الوطني والقومي.

وكل محاولة لفك الارتباط بين الاستقرار والحرية أو السلطة وحقوق الإنسان، هي في المحصلة النهائية دق إسفين في مشروع الاستقرار السياسي والاجتماعي.. لأنه لا يمكن أن نحصل على الاستقرار الحقيقي بانتهاك الحقوق وتكميم الأفواه، لأن هذه تزيد من تدهور الأوضاع وتؤسس على الصعيدين السياسي والاجتماعي لكل أسباب الاضطراب والفوضى والتمرد. فالعلاقة جد عميقة بين الاستقرار والحرية، فلا حرية بدون استقرار سياسي واجتماعي واقتصادي، كما أنه لا استقرار بدون حرية مؤسسية تسمح لجميع المواطنين من المشاركة في ادارة وتسيير شؤون حياتهم المختلفة.

ولعلنا لا نبالغ حين القول: ان العديد من أزماتنا ومشاكلنا في المجالين العربي والإسلامي، هي من جراء الخلل في العلاقة بين الاستقرار والحرية. فالنخب السائدة تسعى من خلال عملها واجراءاتها إلى تلبية حاجات أحد الأطراف وهو الاستقرار، حتى ولو كانت هذه التلبية على حساب متطلبات وقواعد الحرية.

والنخب السياسية والاجتماعية الأخرى تكافح أيضاً من أجل الحرية دون الأخذ بعين الاعتبار قواعد الاستقرار السياسي والاجتماعي. وهكذا ومن خلال هذا الخلل ينتج الكثير من المشاكل والأزمات. فالاجراءات التي لا تتحدد بسقف الحرية وحقوق الإنسان، تكون اجراءات ظالمة ومفزعة ومؤسسة للحروب الداخلية الكامنة والصريحة. كما أن المطالبة بالديمقراطية التي لا تراعي قواعد اللعبة وثوابت المجتمع والوطن، تفضي إلى صراع مفتوح يضيع فيه الاستقرار، كما تتضاءل فيه فرص الحرية والديمقراطية. لذلك فإن عالمنا العربي وهو في سياق تحرره من أزماته الداخلية ومشاكله الذاتية، هو بحاجة إلى إعادة تنظيم العلاقة بين الاستقرار وحاجاته، والحرية ومتطلباتها.

لأن العلاقة الايجابية والدينامية بين الاستقرار والحرية، هي البداية الصحيحة للخروج من أزمات الراهن بأقل خسائر ممكنة.. وهنا يتطلب أن تلتفت النخب العربية والإسلامية السائدة إلى متطلبات الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.. كما يتطلب من قوى المجتمع الأخرى ان تأخذ بعين الاعتبار وتحترم حاجات الاستقرار السياسي والاجتماعي.. فنحن بحاجة أن نلتفت إلى متطلبات الحرية، دون دفع الأمور إلى الفوضى والصراعات المفتوحة، كما نحترم قواعد الاستقرار دون التحجر والجمود واليباس.

فالمطلوب علاقة تفاعلية ودينامية بين متطلبات الحرية وحاجات الاستقرار. وذلك من أجل ان ينطلق مجتمعنا في التغيير والتطوير على قواعد متينة من الاستقرار الاجتماعي.. وان التطورات المتسارعة التي تجري في المنطقة اليوم، تجعلنا نؤكد على أن طريق الاستقرار السياسي والاجتماعي، لا يمر عبر المزيد من الاجراءات والاحترازات الأمنية مع أهميتها وضرورتها، وإنما عبر إعادة تشكيل الحياة السياسية بحيث يتسنى لجميع قوى المجتمع وتعبيراته من المشاركة في بناء الوطن وتعزيز وحدته الداخلية وتمتين أواصر العلاقات بين مختلف المكونات.

فالاستقرار السياسي والاجتماعي اليوم، في الكثير من البلدان العربية والإسلامية، بحاجة إلى حزمة من الاجراءات والخطوات السياسية، التي تستهدف رفع الاحتقانات الداخلية وبلورة الأطر والمؤسسات للمشاركة الشعبية وإعادة تأسيس العلاقة بين متطلبات الحرية ومشاركة الناس في شؤون حياتهم المختلفة وحاجات الاستقرار والنظام.. بحيث لا تقود خطوات الإصلاح إلى فوضى، بل إلى بناء متراكم وعمل وطني متواصل، يستهدف تطوير التجربة وتحديثها، وإزالة عناصر الخلل والضعف منها.

وهذه المهام ليست مستحيلة، وإنما هي ممكنة وتتطلب من جميع الأطراف الاهتمام بالنقاط التالية:

1- ان القوة الحقيقية اليوم في أي مجتمع، لا تقاس بمستوى الكفاءة العسكرية أو الاجراءات الأمنية المحكمة، وإنما تقاس القوة اليوم بمستوى الانسجام والرضا بين مؤسسة الدولة والمجتمع بكل مكوناته وتعبيراته. فالدولة التي تمتلك أحدث الأسلحة، ولكنها منفصلة أو مفصولة عن شعبها فهي دولة ضعيفة. وذلك لأن قوتها الحقيقية ليس في الأسلحة والمعدات العسكرية، وإنما في رضا المجتمع عنها. وفي كفاح المجتمع في الدفاع عنها بكل مؤسساتها وهياكلها.. والدولة التي لا تمتلك الأسلحة الحديثة ولا الثروات الطبيعية الهائلة، إلا انها تعبير حقيقي عن مجتمعها. فهي دولة قوية لأنها محتضنة من قبل شعبها ومجتمعها.. فقوة الدول ليس في ترسانتها العسكرية، بل في انسجامها مع مجتمعها في خياراتها ومشروعاتها. لذلك كله فإن استقرار الدول اليوم، مرهون إلى حد بعيد على قدرة هذه الدول في التفاعل مع قضايا مجتمعها والتعبير عن تطلعاته وحاجاته.

2- إن بناء العلاقة الايجابية والمتطورة بين الدولة والمجتمع في المجال العربي، بحاجة إلى جهود مشتركة بين الطرفين.. فالدولة تتحمل مسؤولية مباشرة في خلق الأجواء والوقائع التي تدفع الواقع صوب التفاعل الايجابي بين الدولة والمجتمع.. كما أن المجتمع بقواه المتعددة يتحمل مسؤولية مباشرة في اطار تطوير العلاقة بين الدولة والمجتمع في التجربة العربية المعاصرة.. فمؤسسات المجتمع المدني ليست بديلاً عن الدولة، كما أن مؤسسات الدولة ليست بديلاً عن فعاليات المجتمع الأهلية والمدنية.. فالاستقرار السياسي والاجتماعي بحاجة إلى جهود مشتركة ونوعية تقوم بها مؤسسات الدولة كما يقوم بها المجتمع عبر مؤسساته الأهلية والمدنية. فالاستقرار هو نتاج عمل متواصل ومتراكم يتجه صوب تعزيز حرية الإنسان وحقوقه الأساسية، كما أنه لا يغفل أو يتجاهل حاجات المجتمع إلى الأمن والاستقرار..

فالطريق إلى استقرار أوضاع العالم العربي اليوم، بحاجة إلى مبادرات وطنية نوعية تتجه صوب إصلاح الأوضاع وتدشين مرحلة سياسية جديدة قوامها ممارسة الحريات وصيانة حقوق الإنسان.