تسبب سؤال طرحته طالبة دكتوراه عن الممالك العربية القديمة كتابة هذه الزاوية، فإجابتي عن السؤال المطروح هي أن النظام السياسي في العالم القديم تطور من البسيط إلى المعقد عبر عصور مختلفة. فالسجل الأثري للتاريخ البشري يرسم حياة الإنسان من البدائية إلى التطور مروراً بمنعطفات متعددة. فلعل أول مراحل وجود الإنسان التي نعرفها هي مرحلة العصور الحجرية التي تنقسم إلى قسمين، قسم يطلق عليه اسم العصر الحجري القديم، وأحياناً يضاف إليها العصر الحجري الوسيط، وهو الأطول زمناً وخلاله لم يعرف الإنسان نظاماً سياسياً معيناً. فمن حيث الاستقرار فلم يعرفه إنسان ذلك الزمن، فكان رحالاً خلف قوته فأينما وجد الماء والحيوان والنبات تجول فمرة يبات ليله في مكان ومرة يقضي نهاره في مكان. ويتسم وجود الإنسان آنذاك بالفردية أو الأسرية المحدودة أي الأسرة الواحدة، ثم ارتقى عدد الأسر ومع ذلك لم يُعرف وجود مجموعات متنقلة ضخمة العدد كما هي الحال في التجمعات القبلية التي ظهرت فيما بعد بوقت طويل.
ويُطلق على القسم الثاني اسم العصر الحجري الحديث الذي خلاله بدأ الإنسان بالإقامة المؤقتة التي لم تلبث وقتاً طويلاً حتى تحولت إلى إقامة دائمة في قرى ذات حجم صغير وعدد سكاني محدود، فالقرية قد تتكون من بضع أسر، والمثال على تلك القرى نجده في قرية جرمو في شمال بلاد الرافدين حيث يصل عدد سكانها إلى مائتي نسمة أقامت في بيوت مشيدة من الطين تحتوي على مواقد ومرافق أخرى. ومع الإقامة بدأت الأعداد البشرية بالتكاثر فتعددت القرى وبدأ التنافس الذي تتوج بظهور القرى المركزية أو ما يطلق عليه اسم دويلة المدينة، لأن القرية المركزية أصبحت مركزاً لأمور تهم قرى عدة، ففيها يوجد حاكم الدويلة، وفيها يوجد مكان التعبد الرئيسي، وفيها توجد القوة المقاتلة التي تدافع عن مصالح القرى التابعة للدويلة.
ومع مرور الوقت بدأ الصراع بين دويلات المدينة من أجل السيطرة ونتج عن ذلك الصراع ظهور الممالك التي ضمت عدداً من دويلات المدينة والقرى التابعة لكل دويلة، وربما أن أقدمها في بلاد الشرق الأدنى القديم هي المملكة الأكادية في بلاد الرافدين والتي أصبحت مملكة مترامية الأطراف في عهد ملكها سرجون الأكادي، ويقابل هذا قيام ممالك في بلاد الأناضول وفي مصر القديمة وبلاد الشام، واستمر التطور السياسي في أشكال متعددة حتى ظهر عصر الامبراطوريات مترامية الأطراف التي حكمت بلداناً تنتشر في أكثر من قارة من قارات العالم القديم.
وعندما ننظر إلى التطور السياسي في مجتمع الجزيرة العربية نجده لا يختلف عن ما ذكرنا في الأقطار المجاورة، بل يماثله في القدم والنوع. فمن حيث القدم فأمم الجزيرة العربية مثل أمة ثمود يرقى تاريخها إلى نهاية الألف الثالث قبل الميلاد وهو التاريخ الذي تعود إليه المملكة الأكادية أولى ممالك بلاد الرافدين. ومن حيث النوع فالتطور السياسي في الجزيرة العربية مرّ من العصور الحجرية القديمة إلى العصر الحجري الحديث، حيث ظهرت العديد من المستوطنات التي تمثلت بالقرى ثم بدأت تظهر الممالك مثل ثمود ومدين وطسم وجديس. بل يحدثنا السجل الأثري والنقوش القديمة عن مملكة دلمون التي جاء نعت أحد ملوكها بصفة ملك في النقوش المسمارية القديمة بصيغة صريحة، ويرقى تاريخ تلك المملكة إلى ألفين وأربعمائة سنة قبل الميلاد وبهذا تكون معاصرة للمملكة الأكادية في بلاد الرافدين.
ويظن بعض الباحثين أن الظروف السياسية القديمة عملت على زعزعة الأنظمة السياسية في الجزيرة العربية خلال الربع الأخير من الألف الثاني قبل الميلاد، أي قبل ألف ومائتين وخمسين سنة قبل ميلاد المسيح، وأن التشكل في حياة سياسة جديدة ظهرت فيما عُرف بالممالك العربية القديمة استغرق قرناً من الزمان.
وبعد دراسة الآثار والسجلات التاريخية طرح الباحثون مقترحاً لتقسيم تلك الممالك إلى ممالك مبكرة وممالك متوسطة وممالك متأخرة استناداً إلى الزمن الذي سيطرت خلاله كل مملكة. فوضعوا ممالك معين وسبأ وقتبان وحضرموت وآدوم وقيدار وديدان في المرحلة المبكرة. أما ممالك المرحلة المتوسطة فهي أوسان وحمير في جنوب الجزيرة العربية ولحيان والأنباط في شمال غربي الجزيرة العربية، والجرهائيون في شرقيها. أما ممالك المرحلة المتأخرة فهي حمير في عهدها الثاني وكندة في وسط الجزيرة العربية، والغساسنة في بلاد الشام، والمناذرة، في بلاد النهرين وتدمر في سوريا، والحضر في بلاد الرافدين. ويُضاف إلى تلك الممالك عدد من الكيانات السياسية والمشيخات التي لم تتضح صورتها بعد.
وعليه نجد أن تسلسل الكيانات السياسية الزمني في الجزيرة العربية يماثل تسلسله في الأقطار المجاورة. وأشعر أننا بحاجة إلى الكثير من الأعمال الميدانية التي توفر مادة تستقرأ ومنها يكتب تاريخ تلك الكيانات.
التعليقات